حين حددت القوانين في مختلف دول العالم، سنَّ التقاعد لما بين عمر الستين والخامسة والستين، أخذ المشرعون في نظر الاعتبار طاقة الفرد على الاستمرار في إمكانية العطاء، من دون النظر إلى الاستثناءات التي رفدنا بها التاريخ عن الحالات الفريدة التي أغنت البشرية بمنجزات العباقرة الذين لم يتوقفوا عن الإبداع رغم التقدم في السن، فيما نعرف أشخاصاً «مسنّين» لم يتجاوزوا الأربعين من العمر.
في عمر الثمانين، توج الحاج عبد الرزاق محمد بيضون، سنوات طويلة من البحث والتقصي لكشف الستار عن اللغز الذي أحاط بصلب سيدنا المسيح عيسى بن مريم (ع)، ذلك اللغز الذي شغل ملايين الناس بمختلف مستوياتهم، جاعلاً نصب عينيه من المنطق والعقل وسيلتين رئيسيتين لحل هذا اللغز.
جاء كتاب المؤلف بيضون بعنوان «لغز صلب يسوع المسيح: كشف الملفات»، وقد اتخذ من فن السيناريو شكلاً لإخراجه، كما أنجزه بعد قراءات معمقة وتحليل دقيق وبحث متواصل في الأناجيل الأربعة، وكذلك باستجلاء آراء المختصين من علماء الأديان المختلفة، إلى جانب الاعتماد على المصادر التاريخية التي تناولت تفاصيل الصلب عام 33 للميلاد.
قد تبدو خلاصة ما أورده الكاتب، تجاوزاً للنظرة المتوارثة والمتداولة عن ذلك الحدث، غير أنها تأتي دليلاً على مصداقية وموضوعية النتائج التي لابد من استخلاصها من خلال نصوص ومضامين الأناجيل الأربعة كاملة، لنتبين بأنفسنا حقيقة محتواها فنخرج من دائرة الجدل المستمر بشأنها، سواء إزاء من يقول بصلب يسوع المسيح أو من يقول بعكس ذلك.
أورد هنا القصة كما استخلصها الكاتب بيضون بعد أبحاثه الطويلة:
عندما ظهر سيدنا يسوع المسيح (ع)، وأخذ يساعد الناس ويجمع تلامذته ويدرسهم، استاء منه الكهنة واتهموه بأنه يريد قلب الحكم الروماني ليستولي عليه، وقد حصل منهم كل ذلك بغية تحريض الحاكم الروماني بيلاطس ضده والتخلص منه بالقضاء عليه، لكن الحاكم كان متيقظاً أمام خداعهم وكذبهم وألاعيبهم، فاستدعى سفيروس مدير الاستخبارات إلى البلاط وسأله عما يعرفه عن يسوع الناصري، وكان يثق به ثقة عمياء، فأجابه بأن يسوع المسيح لديه معجزة بل معجزات، خُلق من روح الله ويقوم بشفاء المرضى كالأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله وأن نبوءته مبكرة، فسُر الحاكم وتعجب من مطالبة الكهنة بصلبه وهو لم يفعل شيئاً يؤذي أحداً، فاحتار الحاكم في أمره وأخذ يفكر بطريقة ينتشل بواسطتها المسيح من مغبة الصلب، وفي هذه الأثناء أتى ملاك من السماء إلى كلوديا زوجة الحاكم وهي نائمة وأمرها بما يجب أن تقوله لزوجها وقد ظنت أنها في حلم.
أرسل الحاكم في طلب رئيس جهاز استخباراته، فعرض الأخير طريقة لتخليص يسوع من الصلب تتلخص في صلب شبيه له عوضاً عنه اسمه انديموس، وكان يثق به، وحين عرض الحاكم الأمر على زوجته حيث كان يؤمن بحنكتها، قالت كلوديا «إنه إنسان لا كغيره من البشر، فهو يبدو كملاك هبط من السماء» ونصحت زوجها بعدم مساعدة الكهنة وشيوخ الشعب بإيذاء يسوع المسيح إذ كانت تؤمن به وهي إحدى تلميذاته.
تم إحضار الشخص الذي سيصلب بدلاً عن المسيح بعد أن تم طلاء وجهه بالأصباغ وألبسوه الثوب الأرجواني ووضعوا على رأسه إكليلاً من الشوك وأخرجوه إلى الساحة العامة، ولم يلحظ أحد من الكهنة أو أفراد الشعب أنه غير المسيح، وقد سلمه الحاكم إلى الحراس ليأخذوه إلى مكان الصلب، كما أمر الجنود بعدم السماح لأحد بالتقرب من الرجل، وفي الطريق أنهكه التعب وأخذ يصيح «أنا تعبت اعطوني قسطاً من الراحة» لكن رئيس الاستخبارات قال له «عليك أن تتحمل تصرفات وإساءات الجنود حتى يبدو الأمر طبيعياً» بحكم كونه متهما بالإساءة إلى الهيكل المقدس.
ثم يدخل الموكب إلى أرض واسعة تتوسطها طريق ترابية تؤدي إلى مكان الجلجلة التي ترابط في مقدمتها مجموعة كبيرة من الجنود لكي تخلي الطريق للموكب الخاص والمكلف بالإشراف على الصلب وتمنع بكل حزم وقوة، الجماهير المحتشدة من غوغائيين وغيرهم من الوصول إلى الموكب الذي أثناء تقدمه يتوقف شبيه يسوع عن المشي ويصرخ «لا أستطيع مواصلة المشي، دعني أسترح ولو للحظة أيها القائد»، فيلتفت (قائد المئة) إلى سفيروس بعد أن لمح رجلاً قادماً من حقل قريب، ثم يغمزه في الخفاء فيومىء له برأسه استجابة، ثم يتسلل بعيداً عن الموكب بضعة أمتار ويهمس في أذن مساعده الذي ينطلق مع اثنين من أعوانه المتنكرين صوب الرجل الفلاح الذي قدم من الحقل القريب، وبطريقة لا تثير الشك في نفوس الجماهير التي بقيت تراقب من بعيد دون أن ترى حقيقة ما كان يجري ويدبر.
شبيه يسوع يتأوه من ثقل الصليب ويصرخ «ارحموني» فصاح سفيروس المتنكر: «أيها الضعيف الجبان، خدعتنا بقدراتك، وتتأوه من حمل خشبة لا وزن لها؟ تباً لك»، فيخاطبه قائد المئة: «هذا الرجل خدع الناس البسطاء بمواعظه وخطبه وأعماله السحرية وها هو يستغيث لطلب المساعدة»، قال ذلك لكي يموه على الجماهير المشهد.
اقترب جيمينوس من الفلاح، قال له «ما اسمك؟»، فأجابه: «إسمي سمعان» فاصطحبه إلى رئيس الاستخبارات الذي استغرب لهجته فسأله عن موطنه فأجاب: «من القيروان ولكني اخترت هذه الأرض لأعيش فيها»، فقال له القائد: «أنتم الفلاحون لديكم معرفة ودراية بدواء الأعشاب، هذا الرجل يشكو من ألم في معدته، حاول أن تراه» وما أن وصل إليه حتى افتعل المحيطون الضوضاء فأخرجوا الصليب من على ظهر الشبيه ووضعوه على ظهر سمعان وبسرعة ألبسوه الثوب الأرجواني وتوجوا رأسه بإكليل الشوك بعد طلاء وجهه بالأصباغ كما فعلوا بالشبيه الأول دون أن تشعر الجماهير بذلك بحسب خطة رئيس الاستخبارات، وهكذا تمت عملية الصلب.
إن اختيار المؤلف لشكل السيناريو في تقديم هذه الحقائق كان أقرب إلى نقلها للقارىء مما لو اختار الرواية مثلاً، وبذلك يكون نتاجه البحثي قد قدم بطريقة تكاد تكون محسوسة أكثر من بقية الأجناس الكتابية الأخرى، آملين من الكاتب بيضون إتحافنا بالجزء الثاني من هذا السيناريو، والمتعلق بحوادث ما بعد الصلب.
Leave a Reply