على خلفية استضافة عسكريين إسرائيليين ضمن فعاليات حوار الأديان التي يقيمها «المركز الإسلامي في أميركا» بالتعاون مع «جامعة الدفاع الوطني» منذ 2007، كشفت التطورات الأخيرة عن وجود عطب كبير داخل مؤسسات الجالية يتمثل بالفجوة الواسعة بينها وبين بيئتها الاجتماعية. وما من شك في أن هذا الخلل ينذر بشر مستطير، مع تفاقم أزمة الثقة بين أبناء الجالية ومؤسساتها.
المشكلة هي أن تلك المؤسسات، ومعظمها منظمات غير ربحية، تغيب عنها الشفافية بشكل يثير الكثير من القلق وعلامات الاستفهام.
وحين نتحدث عن الشفافية، لا نقصد الشفافية المالية فقط، فالقاصي والداني يعلم أن تلك المؤسسات والمراكز الدينية يديرها أشخاص متنفذون وكأنها أملاكهم الخاصة، والبعض منهم يعمل بلا كلل ولا ملل من أجل توريثها لأبنائهم، وهذا موضوع آخر.
أما الشفافية التي نعنيها فتتعلق بالرؤية والمسؤوليات الإدارية وآليات اتخاذ القرار في تسيير مصالح مؤسسات كبيرة وما تمثله من شرائح عريضة من أبناء الجاليات العربية في منطقة ديترويت.
من تابع مجريات قضية «المركز الإسلامي» الأخيرة يدرك مدى الحيرة والارتباك التي وقع فيها مسؤولو الجامع الكبير، الذي يقال إنه الأكثر مؤسسساتية مقارنة بالمراكز الدينية الأخرى الكثيرة في المنطقة، فمن يفترض بهم أن يكونوا في موقع المسؤولية لم يتمكنوا من احتواء المشكلة بل أنهم لم يسعوا مخلصين لحلها، فأداروا ظهورهم مفضلين تجاهل حماسة الشباب وحنقهم على استقبال ضباط إسرائيليين في مركزهم وفي قلب جاليتهم.
غابت الحكمة، وسادت الضبابية، إضافة إلى جرعات زائدة من الحماقة عند كلا الطرفين. وحينما حاولنا –في «صدى الوطن»– التواصل مع أعضاء هيئة الأمناء في «المركز الإسلامي» لاستيضاح الأمور لم يستجب المسؤولون لاتصالاتنا، علماً بأن ذلك كان كفيلاً بوضع النقاط على الحروف و«ضبضبة» الموضوع بدون إفساح الفرصة للرؤوس الحامية الساعية لتصفية الحسابات ونشر الغسيل القذر.
وبدلاً من نشر بيان رمادي ابتداءً، وإتباعه ببيان ثان –أقل رمادية– يوم السبت الماضي، كان بالإمكان إقناع المحتجين بتشكيل لجنة تمثلهم والجلوس حول مائدة مستديرة مع المسؤولين، والخروج بحل يرضي الجميع ويقيم اعتباراً لكرامة الجالية. لكن ما حدث.. كان تمييعاً واستغفالاً، إذ أصرّ بعض الإدرايين على أن أمناء المركز لم يكونوا على دراية بوجود إسرائيليين ضمن الوفود التي يستضيفها المركز سنوياً.
بعض الأصوات حاولت حصر المسؤولية بمدير برنامج حوار الأديان، عيد علوان، بوصفه المسؤول الوحيد عن تلك «الخطيئة»، لكن مصدراً مقرباً منه أكد أن علوان قام –ومنذ عشر سنوات– بإطلاع الأمناء على حقيقة ضم الوفود العسكرية لضباط إسرائيليين، وأن البرنامج استمر بناءً على موافقتهم. وإذا صحت هذه المعلومة –مع الإشارة إلى أن معظم المعلومات المتداولة حول هذه المسألة غير موثقة– فيصبح إذن لا معنى لمطلب المحتجين وإصرارهم على محاسبة علوان وإزاحته من منصبه!
المحتجون –بدورهم– لم تخلُ حلقاتهم من بعض الرؤوس الحامية التي تتوخى تسجيل النقاط وتصفية الحسابات، غير آبهة بالضرر الذي قد يحدق بواحد من أعرق الصروح الإسلامية في الولايات المتحدة.
وفضلاً عن أنهم لم يستطيعوا إثبات الكثير من مزاعمهم بالأدلة الموثقة، لم يتوقف هؤلاء أمام ما تعهد به البيان الثاني بعدم استضافة عسكريين إسرائيليين داخل الجامع الكبير في المستقبل، وسط إصرار على المطالبة باعتذار عام للجالية إضافة إلى محاسبة المسؤولين وتنحيتهم عن مسؤولياتهم!
ليس لدينا شك في أن معظم المحتجين هم من الغيورين على مصلحة وصورة الجالية، لكنهم ربما تناسوا في غمرة الحماس تلك المقولة المعروفة «الطريق إلى الجحيم مفروشة بالنوايا الطيبة»، أما البعض الآخر، من المتصيدين في الماء العكر، فلم يشف غليلهم وما عادوا يكتفون بهزيمة «الخصم» بالنقاط، وإنما أرادوا طرحه أرضاً بالضربة القاضية!
المحتجون، والكثيرون منهم أطباء ومهندسون وخريجون جامعيون في مختلف الاختصاصات، لم يلتسموا أياً من الأعذار لأعضاء هيئة الأمناء، ولم يقدروا وجود عواقب قانونية تجبر إدارة المركز الإسلامي على التصرف بـ«ضبابية» في هذه المسألة، لاسيما وأن الجامع الكبير هو مؤسسة غير ربحية وبالتالي فليس من حق إدراتها منع دخول أشخاص إليها، بسبب خلفياتهم الدينية أو الإثنية، فمثل هذا السلوك قد يقود إلى أروقة المحاكم.
غابت الحكمة عن كلا الطرفين. فمن جهة تعنّت الأمناء وتغيبوا عن لقاء يوم السبت الماضي، وكان مظهر الكراسي الفارغة التي أعدت لجلوسهم مخيبة للآمال ومهينة ليس فقط للمئات الذين حضروا إلى المركز، بل لعموم الجالية. كان من المفيد أن يحضر بعضهم للاستماع إلى آراء وتعليقات الشباب الغاضبين، وهنا.. لا بد من إبراق بطاقة شكر إلى الدكتور نسيب فواز الذي أبدى شجاعة واستعداداً لسماع المحتجين والوقوف عند خاطرهم، وقد اقترح تشكيل لجنة تمثلهم للاجتماع مع هيئة الأمناء، بدل الأحاديث والتعليقات المنفلتة وسط الهرج والمرج الذي احتاج إلى جهود ليست بالقليلة من قبل المنظمين لضبط الجموع وفرض الهدوء في القاعة.
على مواقع التواصل الافتراضي، يتم تناقل روايات وتفسيرات وتحليلات أخرى، تندرج غالباً ضمن تجاذبات شخصية وفئوية، ويمكن أن تساق تحت عنوان المثل الشعبي القائل: «ليست قصة رمانة.. إنها قصة قلوب مليانة»!
في ملاحظة أخرى، كشفت قضية استقبال «المركز الإسلامي» لضباط إسرائيليين، مفارقة لافتة ومؤلمة. ففي الوقت الذي كان فيه المحتجون في ديربورن يعبرون عن سخطهم من «تطبيع» مزعوم مع دولة الاحتلال، كانت إسرائيل تمعن بقتل المتظاهرين الفلسطينيين العزّل في «مسيرات العودة» في قطاع غزة وبعض المدن الفلسطينية الأخرى. في اليوم التالي خرجت تظاهرات احتجاجية في العديد من دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة التي شهدت تظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين في كل من أتلاتنا وديترويت ونيويورك وشيكاغو ويونغستاون وغيرها، في حين لم يحرك أحد ساكناً في عاصمة العرب الأميركيين – ديربورن.
Leave a Reply