بين الضغط على إيران واستهداف «حزب الله» ومذبحة غزة:
كل الطرق تقود إلى «صفقة القرن»… المشروع الأميركي المتجدد لتصفية القضية الفلسطينية اتخذ منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شكلاً أكثر خطورة وعدوانية، تبدو معه الإدارة الأميركية أكثر تصميماً على تمريره أيّاً كانت الأثمان.
«صفقة القرن»، بخطوطها العريضة، باتت واضحة. على مدار 25 عاماً لم يؤدّ «مسار أوسلو» فعله في تصفية القضية الفلسطينية. صحيح أن هذه «التسوية» حققت الكثير من الأهداف الأميركية–الإسرائيلية، لجهة إسقاط شعار «كامل التراب الفلسطيني» و«الاعتراف بالكيان الإسرائيلي»، في مقابل سلطة فلسطينية مبتورة على الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن الهدف، وكما اتضح بعد ذلك، كان أبعد بكثير.
ثمة عنصران جوهريان في القضية الفلسطينية لم يستطع «أوسلو» تصفيتهما طوال ربع قرن هما القدس واللاجئون (حق العودة). هذان العنصران شكلا، عملياً، الأساس الذي أفشل المسار التفاوضي بكل جولاته، بعدما أبدى الزعيم الراحل ياسر عرفات موقفاً، يُحسب في ميزان حسناته السياسية، حين رفض أي مس بوضعية القدس كعاصمة لدولة فلسطين، وأية مساومة على حق العودة، وهو موقف يُعتقد أنه شكل الحافز لتصفيته (تسميماً) من قبل الإسرائيليين.
بعد القدس .. حق العود
وإذا كان الرؤساء الأميركيون السابقون، حتى الأكثر تطرفاً منهم، أمثال جورج بوش الابن، قد سعوا على مدار عصر «تسوية أوسلو» إلى الحفاظ على ماء الوجه، الذي يبقي الولايات المتحدة «وسيطاً نزيهاً» في المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، فإنّ هدفاً كهذا لا يشكل هاجساً لدى دونالد ترامب، الذي ربما يرغب في الخروج من البيت الأبيض بعد ولاية رئاسية أو اثنتين، محققاً «إنجازاً تاريخياً» لم يستطع أي رئيس أميركي آخر تقديمه للإسرائيليين، وهو «تصفية القضية الفلسطينية» بالكامل.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم التحركات الأميركية الأخيرة، لا سيما قرار «الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل» ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى المدينة المحتلة، وهو قرار يستهدف ضرب العنصر الأول المقاوم لخطة تصفية القضية الفلسطينية، قبل الانتقال إلى استهداف العنصر الثاني المتعلق بـ«حق العودة»، عبر فرض «صفقة القرن» الهادفة إلى تشريع التمدّد الاستيطاني بشكل نهائي، عن طريق التخلص من «العوائق البشرية» الممتدة من الضفة الغربية وقطاع غزة، من خلال «أراضٍ بديلة»، لن تكون في فلسطين التاريخية بطبيعة الحال، وإنما في دول الجوار، سواء في مصر (سيناء) أو الأردن.
تصعيد إسرائيلي وهَوان عربي
بهذا المعنى فقط، يمكن فهم طبيعة التصعيد الإسرائيلي الأخير، والإصرار الوقح على ارتكاب مزيد من المجازر بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
ينطلق ذلك من «أيديولوجيا الترويع» التي قام عليها الكيان الإسرائيلي من خلال عمل عصابات الـ«هاغاناه»، وذلك وفق استراتيجية محددة، تقوم على الاستخدام الدموي المفرط للقوة، لوأد أية محاولات للمقاومة من جانب الشعب الفلسطيني، لاسيما حين يتعلق الأمر بجهودٍ لتحقيق خطط خطيرة، كتلك التي يجري الإعداد لها في أروقة البيت الأبيض.
ومن خلال تلك الزاوية أيضاً، يمكن فهم حقيقة التصعيد الأميركي–الإسرائيلي الأخير ضد «حزب الله» وإيران.
المعادلة بالنسبة إلى الأميركيين والإسرائيليين باتت واضحة. منذ سنوات، بات العرب يتسابقون على قطار التسوية، بعدما اعتمدوا طوال أكثر من عقد سياسة «النأي بالنفس» عن قرار أنور السادات الدخول في اتفاقية صلح مع إسرائيل. ومنذ أوائل التسعينيات، وتحديداً بعد «أوسلو» و«وادي عربة» باتت كافة الأنظمة العربية مستعدة لتقديم أوراق اعتمادها للأميركيين من خلال البوابة الإسرائيلية، بدءاً بالسعودية والامارات… وصولاً إلى المغرب وموريتانيا، وذلك تحت مسمّيات متعددة، قد يكون أشهرها «المبادرة العربية» التي روّج لها عبد الله بن عبد العزيز، وأطلقها من قمة بيروت.
وحدها بعض «الأنظمة المارقة»، وفق التعبير الأميركي، ظلت تعاند وتقاوم. ولهذا السبب كان لا بد من تصفيتها. وعلى هذا الأساس، جاء «غزو العراق» الذي سعى في الواقع الى تحقيق جملة أهداف استراتيجية، تتخطى الهدف المعلن منه (أسلحة الدمار الشامل)، أبرزها على الاطلاق جعل القوة العسكرية لأميركا على حدود سوريا الشرقية، بالتزامن مع ضرب خاصرتها الغربية، من خلال القرار 1559، وما تلاه من أحداث أعقبت اغتيال رفيق الحريري.
الصمود السوري
ولعل السنوات اللاحقة للغزو، أظهرت أن سوريا لا تزال عصية على التطويع، بعدما استطاعت احتواء كل تلك الضغوط، ليحل العام 2010، مكرّساً هزيمة المشروع الاميركي، وهو ما فرض الانتقال إلى شكل جديد من أشكال التطويع، عبر إشعال ما بات يسمى «الربيع العربي» لتحقيق هدفين: الأول المجيء بأنظمة «إسلامية» تخدم المشروع الكبير، والثاني اسقاط ما تبقى من أنظمة «ممانعة» وتحديداً تدمير الدولة السورية، وجعل إيران وحيدة في مقاومة المشروع الاميركي… إلى أن تسمح الفرصة باحتوائها أو حتى ضربها، إلى جانب حركات المقاومة العابرة للحدود.
ما حدث بعد ذلك، بات معروفاً للجميع، فقد صمدت سوريا، ومعها إيران وباقي حركات المقاومة، بما في ذلك تلك التي انضوت في مرحلة الخطر الكبير تحت المظلة القطرية (حركة «حماس»)، فجاء التدخل العسكري الروسي، وما تلاه من إنجازات استراتيجية في الميدان –وأبرزها على الإطلاق عمليات ربط الحدود التي كرّست التواصل الجغرافي بين محور المقاومة من إيران مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان– ليعيد رسم المشهد الجيوسياسي على نحو مناقض للمخططات الأميركية.
خطة جديدة
كان لا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة لتحقيق الخطة الشاملة، تكوّنت مراحلها على مستويين: الأول، هو تكريس محور عربي (خليجي في الاساس) معادٍ لمحور المقاومة الذي ازداد صلابة خلال السنتين الماضيتين؛ والثاني اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لإضعاف المحور الأخير، تمهيداً لضربه، أو على الأقل شلّ قدرته على التحرّك في مواجهة الصفقة الكبرى.
من هنا يمكن فهم الاصطفافات العربية المتجددة خلف المشروع الأميركي، والتي تكرّست في «القمة الأميركية–الإسلامية» التي استضافتها السعودية العام الماضي، وتهافت الخليجيين على فتح قنوات الاتصال بشكل علني ووقح مع الإسرائيليين، وتقديم أوراق الاعتماد للأميركيين عبر إجراءات وقحة، تتفاوت بين تأمين الغطاء السياسي المفضوح لـ«صفقة القرن» من خلال التغطية على جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، والتباري لطرح خطط «تسوية» بديلة كمشروع العاصمة الفلسطينية في أبو ديس التي طرحها محمد بن سلمان.
ومن هنا أيضاً، يمكن تفسير التصعيد الأميركي الأخير ضد إيران، الذي بلغ ذروته من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي. ومع أنّ القرار يستهدف تحقيق جملة أهداف استراتيجية تتجاوز الشرق الأوسط، لتصل إلى مجمل العلاقات بين الولايات المتحدة وبين الأوروبيين، إلا أن الإجراءات المرافقة له، تصب في خانة تكثيف الضغوط على «محور المقاومة» في ظل التحوّلات الأخيرة المرتبطة بالقضية الفلسطينية.
ضرب المقاومة
وعلى هذا الأساس، جاء قرار فرض عقوبات جديدة على «حزب الله»، ممهورة هذه المرة، بتوقيع الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين، في إطار ما يسمّى «مركز استهداف تمويل الارهاب» الذي أعلن عن تشكيله بعد زيارة ترامب الشهيرة للسعودية.
وفي الواقع، لا يمكن النظر إلى هذا الإجراء التصعيدي سوى من زاوية توقيته الخبيث، فهو يندرج في إطار الحلقة الأوسع، في ظل تزامنه مع ما يجري في فلسطين وسوريا وايران، فمما لا شك فيه أن المقاومة في لبنان هي قوة أساسية في محور المواجهة مع المشروع الأميركي–الإسرائيلي، وكانت أحدث محاولات استهدافها في الانتخابات النيابية الأخيرة، حيث بُذلت جهود لتحقيق سيطرة الفريق المعادي، بما يؤدي إلى أكثرية نيابية تعيد النظر في الاستراتيجية الدفاعية لبنان، قبل أن تقول الصناديق كلمتها وتسقط خطة فرض احتواء لسلاح المقاومة على أيدي أكثرية نيابية وحكومة جديدة، كان يراد لها أن تكون مرتطبة كلياً بالولايات المتحدة.
بذلك تكون العقوبات الجديدة فصلاً متكرراً لهدف واحد وهو إعطاء فرصة للولايات المتحدة لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بشأن «حزب الله»، مماثل للقرار 1559 الذي أخرج سوريا من لبنان، وهو ما يفتح باباً للتدخل الأميركي في لبنان، إلى جانب إسرائيل، لمواجهة سلاح المقاومة، بما يعنيه ذلك من استتباع لخطة التضييق على المحور المقاوم، أو في أسوأ الحالات إلهاء العالم عمّا يجري في فلسطين، وبطبيعة الحال خلق مناخ تصعيدي لصرف الأنظار عن «صفقة القرن» إذا ما اختير التوقيت المناسب لتمريرها!
Leave a Reply