خلال فترة عملي في دولة الإمارات قبل سبعة عشر عاماً، اشتهرت الشارقة آنذاك بكونها «مدينة العرب الثقافية»، وكان الناس يستعدون فيها لشهر رمضان المبارك قبل قدومه بشهر تقريباً، فترى الحشود من البشر يتقاطرون على محلات المواد الغذائية للتسوق بدرجة يخال للفرد معها أن هناك مجاعة حتمية مقبلة، فيروح الناس منهمكين بتخزين التموين من كل نوع رغم استغلال التجار لهذه المناسبة برفع الأسعار لدرجة قد تصل إلى أربعة أضعاف سعرها الأساسي من دون رقيب أو حسيب… كذلك كانت العائلات الكبيرة تقبل على شراء ثياب العيد قبل حلوله بشهرين أو أكثر تحسباً لاجتياحهم من قبل موجة جنون الأسعار وشراهة التجار الذين يستغلون هذه المناسبة أبشع استغلال.
لكن الجانب الاجتماعي الإيجابي والمشرق في هذا الشهر الكريم، يتمثل بأجمل المشاهدات من صور التودد بين المعارف والأصدقاء والأقارب، حيث ترى أجواء الفرح تخيم على كل عائلة وعلى كل بيت. حتى الشوارع تتزين بالاشرطة الزاهية نهاراً وبالأنوار الملونة ليلاً، وما إن يقترب وقت الإفطار حتى ترى «صواني» الطعام المغلفة بورق الألومنيوم محمولة على الرؤوس لإيصالها إلى المساجد وخاصة الهريس، أوالهريسة كما نسميها هنا، وهي الوجبة الأساسية الرمضانية إلى جانب عادات متوارثة وجميلة حيث يتبادل الجيران مع بعضهم البعض مما يعدون من أطعمة وأشربة.
أما في المساجد فيتوفر الطعام من كل صنف ونوع مضافاً إليه العصائر والفواكه والحلويات، وكل فرد يمكنه أن يتوجه إلى بيوت الله ويتناول الإفطار مجاناً.
بركة الشهر الفضيل تعم الجميع وبشائر السعادة تلوح في الوجوه، وحالما ينتهي الناس من الإفطار ترى المساجد تغص بالمصلين والمتعبدين إلى الله عز وجل ومنهم من يواصل تعبده إلى شطر من الليل غير عابىء بما ينتظره من التزام عمل يستغرق نهاره، لاسيما وأن الدوائر الحكومية في البلدان العربية والإسلامية تقلص ساعات الدوام في شهر الصوم.
في وسط هذه الأجواء الرمضانية قضيت أجمل أيام عمري ومعي أبنائي في تلك البلاد العربية الشرقية.
أما هنا –في هذا المنقلب من الأرض حيث نقيم– فتكاد لا ترى جارك لأشهر وإذا حدث والتقيته صدفة فبالكاد يتلطف ويبادلك التحية!
من المعروف أن الجالية هنا كبيرة ومتعددة الأطياف، وها قد حل شهر رمضان الكريم مشكلاً مناسبة عظيمة للتمسك بروحانياته الإنسانية والربانية من خلال تثبيت عاداتنا وتقاليدنا في حفظ وصيانة مكانة الجار، وتناسي الضغائن ونبذ الأحقاد ونشر قيم التسامح وإظهار المودة وإشاعة الرحمة بين الناس، وقد قال عز وجل «إن الحسنات يذهبن السيّئات»، فابتسامتك في وجه أخيك في الخلق حسنة وصدقة لا تكلفك شيئاً.
أما بخصوص أصحاب الأموال التي يكدسونها على قلوبهم، فحلول الشهر الفضيل فرصة عظيمة تمتثل أمامهم في أن يشعروا بأن لهم إخوة مسلمين لا يجدون ما يفطرون به بعد صيام يوم شاق، وإن البعض منهم لا يملكون ثمن شراء الملابس الجديدة لأبنائهم لاستقبال العيد أسوة بأقرانهم.
إن رمضان «أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار»، لكنني كثيراً ما أرى أفراداً لم يفقهوا هذا المعنى من الشهر الكريم، من حيث لا يراعون حرمته، فيجاهرون بالإفطار إذ نراهم يأكلون في الشارع ويدخنون السجائر علناً ومن دون حرج أو مراعاة لشعورالصائمين، فيا حبذا لو انتبه أصحاب هذه التصرفات فيتراجعوا عن غيهم حرمة لشهر الله وإطاعة لرسوله واحتراماً لأبناء مجتمعه.
ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ذنوبه، قال تعالى «يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم»، فلنرجع إلى الله ولتكثروا من قراءة القرآن بتدبر وخشوع، كما أن الإكثار من أداء الصدقات لمن يستطيع عليها يُكثر من إشاعة الرحمة بين الناس، فاذكروا الله الذي خلقكم وأنعم عليكم، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
كل عام وأنتم بخير، وجعله الله رمضان شهر خير وبركة على المسلمين في كل مكان، ونصرا للمظلومين. وما النصر إلا من عند الله.
Leave a Reply