المشهد في «مؤسسة هيريتيج» حيث ألقى مايك بومبيو خطابه الاثنين الماضي بدا وكأنه لقطة من فيلم «الأميركي القبيح»، فوزير الخارجية الأميركية –وعلى عكس سلفه ريكس تيلرسون الأكثر حكمة– ظهر في أول خطاب رئيسي له حول السياسة الخارجية وكأنه يصب مزيداً من الزيت على النار، من خلال لائحة الشروط الـ12 التي تنطوي على إعلان حرب اقتصادية تهدف إلى سحق الاقتصاد الإيراني عبر فرض «أقسى العقوبات الاقتصادية في التاريخ».
قد يطرب خطاب الوزير القادم من الـ«سي آي أي»، زعماء تل أبيب والرياض، ولكنه بالنسبة لبقية المجتمع الدولي يشكل رمزاً لعنجهية إدارة دونالد ترامب المستمرة بتمزيق الاتفاقيات الدولية دون أدنى اعتبار لمعايير الشرف والمصداقية ومكانة أميركا العالمية.
ورغم تسونامي ردود الأفعال السلبية دولياً إزاء قرارها بالانسحاب من الاتفاق النووي، فضلت إدارة ترامب الهروب نحو الأمام، عبر مضاعفة مطالبها ثلاث مرات، من 4 إلى 12 مطلباً. وبذلك يكون بومبيو قد ضرب ستاراً دخانياً لمسار غير دبلوماسي نحو التصعيد مع إيران، من خلال تكديس مطالب تعسفية ترقى إلى مرتبة التنكيل بجثة الاتفاق الذي عقدته الدول الكبرى مع طهران في فيينا عام ٢٠١٥.
وزير الخارجية، صاحب السجل الطويل من الإسلاموفوبيا والإيرانفوبيا، اتهم الجمهورية الإسلامية بالسعي للسيطرة على الشرق الأوسط، متوعداً برد أميركي حازم يطالها ويطال حلفاءها الإقليميين.
وقد بات واضحاً أن هذه الإدارة ليس لها أي مسار دبلوماسي مع طهران، وأنها ببساطة مصممة على تغيير النظام رغم ادعاء بومبيو بعكس ذلك في تصريحات لاحقة الأربعاء الماضي.. والمواجهة مع إيران إذا بدأت فلا أحد يعرف كيف تنتهي في منطقة تعمها الفوضى والاضطراب والحروب المستمرة منذ سنوات مما يهدد فعلاً بزعزعة السلام والاستقرار في العالم برمته.
في الواقع، كشف خطاب بومبيو الحاد ضد إيران عن الخطوط العريضة لاستراتيجية أميركية معهودة تبدأ بالتصعيد تمهيداً لتأجيج النزاع وتعميقه عبر الوسائل الناعمة المعتادة مثل العقوبات والحصار أولاً، ثم الانقضاض على البلد المستهدف عسكرياً إذا ما تطلب الأمر ذلك لاحقاً.
في المقابل، ربما يكون التصعيد الأميركي والشروط التعجيزية الـ١٢ على طهران، ليست إلا محاولة استباقية للالتفاف على الحلفاء الأوروبيين الذين يبدون إصراراً متزايداً على الاستمرار بالاتفاق، في حين لا يبادلهم النظام الإيراني الرغبة نفسها إلا في حال تلبية سبعة شروط تحدث عنها السيد علي خامنئي بالتفصيل الأربعاء الماضي.
من هذا المنظور، يبدو أن البيت الأبيض قد ضاعف شروطه ثلاث مرات للتأكد من أنه لا يمكن التوصل إلى حل وسط، وأن التلويح بالقبضة الفولاذية الأميركية بوجه الجمهورية الإسلامية يمكن أن يستمر بدون عوائق أو عواقب.
في الأثناء، بدأ الصوت يعلو في أوروبا ضد الولايات المتحدة التي تتصرف وكأنها «شرطي الاقتصاد العالمي»، وكأنها روما الجديدة التي تهيمن على نظام عالمي أحادي القطب ولا تتوانى عن محاولة تحويل الحلفاء إلى أتباع يطيعون بخنوع أوامر واشنطن!
ولكن العالم يتغير ويدخل عصراً جديداً متعدد الأقطاب، ولم يعد بإمكان أحد في الولايات المتحدة أن يعيد الزمن إلى الوراء، وهذا هو العيب الرئيسي في خطاب إدارة ترامب نحو إيران، واللعب بورقة العقوبات التي لن تطال إيران وحلفاءها وحسب، بل تطال أيضاً حلفاء أميركا الأقربين، قد يكون له عواقب وخيمة على مكانة أميركا الدولية، سياسياً واقتصادياً، حيث لا يمكن لواشنطن أن تمعن كثيراً في استخدام الدولار والنظام المالي العالمي لمصالح «أميركا أولاً»، كما يقول الرئيس ترامب.
ولذلك بدأ الحديث يدور اليوم جدياً في أوروبا حول تجاوز التعامل بالدولار الأميركي لشراء النفط والغاز، والاستعاضة عنه باليورو، كما يجري الحديث عن توفير التجارة مع إيران من خلال بنك الاستثمار الأوروبي.
وفي ضوء هذه التحديات: لماذا تحاول إدارة ترامب عبثاً الإبقاء على العداء بين الأوروبيين وإيران؟
والجواب الواضح على السؤال أعلاه هو أن الولايات المتحدة تعاني من أوهام قوة فائضة.. إذ لم تعد قادرة على فرض إرادتها على الدول الأخرى ولكنها ترفض الاعتراف بالواقع الجديد!
Leave a Reply