من الجولان إلى غزة … وصولاً إلى إيران
بخلاف ما تبدو الصورة عن بعد، ثمة مأزق مزدوج تعيشه إسرائيل هذه الأيام. الكيان المصطنع الذي ولد سِفاحاً بين الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني قبل 70 عاماً، أثبتت الأيام أنه نموذج لوحش مسخ، لا يستطيع ضمان ديمومته إلا بالتغذي على الدماء.
على الطريقة «الدراكولية» تبدّى التعطش الإسرائيلي الدائم للدماء، في سلسلة الحروب والغزوات، التي أطلقتها العصابات الصهيونية قبل نشاة «الكيان»، والتي تمأسست بإطار عسكري منهجي منذ تشكيل الجيش الإسرائيلي، وأذرعته الأمنية والاستخباراتية المتعددة.
لعلّ قراءة سريعة في التاريخ القصير لإسرائيل، منذ قيامها على الأرض الفلسطينية، وحتى اليوم، تكفي لتظهر كيف أن الحرب كانت الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء، وهو ما لحظه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قبل نحو خمسين عاماً، في مقاربته للحالة التي يعيشها ذلك الكيان المسخ، منذ نشأته.
هذا الواقع نفسه، لاحظه حتى الإسرائيليون المغرّدون خارج سرب المنظومة الحاكمة، منذ أيام ديفيد بن غوريون، فالحروب الإسرائيلية، غالباً ما ارتبطت بمأزق داخلي، فكانت بالنسبة إلى تلك المنظومة، الوسيلة الوحيدة للهروب إلى الأمام في مواجهة تحدّيات الداخل.
اليوم، لا تشذ إسرائيل عن تلك القاعدة، فحكومة بنيامين نتنياهو التي تواجه تحدّيات داخلية خطيرة، لا تملك من وسيلة سوى جر الشرق الأوسط إلى حرب جديدة.
هي نفسها المعادلة التي انتهجها من قبله الكثير من رؤساء الحكومات الإسرائيلية، أقربهم إلى ذاكرتنا العربية، أرييل شارون وإيهود باراك وإيهود أولمرت.
لكنّ حرباً كهذه، لا بد من أن تكون رابحة، بالمنظور الإسرائيلي، وإلا أخرجت مطلقها تماماً من الحياة السياسية، التي تزداد تعقيداً في إسرائيل سنة بعد سنة.
هنا يكمن المأزق الحالي الذي تعيشه إسرائيل، والذي يدفع بنيامين نتنياهو إلى اجترار خطاب الحرب، تارة مع إيران، وطوراً مع «حزب الله»، وبطبيعة الحال ضد الفلسطينيين، وكان آخرها جولة غزة الأسبوع الماضي.
لكنّ الوجه الآخر، لذلك المأزق المزدوج، يتمثل في أن التحوّلات التي أفرزتها السنوات القليلة الماضية، ولاسيما بعد هزيمة حرب تموز 2006، وصمود النظام السوري، تجعل الحرب مغامرةً فاشلة.
ردع استراتيجي
بعد حرب تموز، بدأت إسرائيل تواجه معضلة «الردع الاستراتيجي»، الذي كبح جماح أية مغامرة تسعى قيادتها السياسية–العسكرية إليها.
فالأصوات التي خرجت من إسرائيل طوال هذه السنوات، عكست بوضوح، العجز الذي لم تعد معه تل أبيب صاحبة قرار السلم والحرب، وهو تحوّل لم يحدث في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي.
من هنا بدت السخرية في التصريحات الإسرائيلية التي غالباً ما تتكرر تحت عنوان واحد هو «الوضع خطير على الجبهة الشمالية… ولكننا غير معنيين بالتصعيد». هذا العنوان هو الاعتراف المبطن بفشل «التفوّق» لذلك «الجيش الذي لا يقهر»، وكونه إقراراً واضحاً بنجاح سياسة «الردع الاستراتيجي» الذي فرضه «حزب الله» على المعادلة.
على هذا الأساس، جاءت الحرب السورية بالنسبة إلى إسرائيل كطوق النجاة لإخراجها من هذا المأزق والالتفاف على الجبهة اللبنانية، وتحول الميدان السوري منذ الأشهر الأولى للأزمة في العام 2011، أرضاً «سداحاً مداحاً» للتدخلات الإسرائيلية، سواء من خلال دعم الفصائل المسلحة في الجنوب السوري، في محاولة لتكرار تجربة «الجدار الطيب» في جنوب لبنان، أو من خلال استباحة الأجواء السورية، وشن الغارات على «قوافل السلاح» أو «مقرات الميليشيات الموالية لإيران»… أو حتى عبر عمليات الاغتيال المباشر لقادة المقاومة اللبنانية والحرس الثوري الإيراني.
هذا الواقع لم يستمر طويلاً، فالتدخل العسكري الروسي في سوريا، بحلول نهاية العام 2015، أعاد رسم التوازن الميداني، على النحو الذي شكل مصدر ارتياح لدمشق ومحور المقاومة، خصوصاً بعد النجاحات المتتالية التي حققها هذا المحور، ابتداءاً من حملة «ربط الحدود» بين سوريا والعراق، مروراً بتطهير الحدود اللبنانية–السورية من الخطر التكفيري، وصولاً إلى تحويل الجولان المحتل إلى جبهة مواجهة، للمرة الأولى منذ حرب العام 1973.
وتمظهر المأزق الإسرائيلي أكثر فأكثر، بعدما تمكنت الدفاعات الجوية السورية من إسقاط طائرة «أف – 16»، التي ظلت حتى الأمس القريب درّة تاج سلاح الجو الإسرائيلي.
يومها، وجدت إسرائيل نفسها أمام أمر واقع جديد، تمثل في «البطاقة الصفراء» الروسية التي رفعت في وجهها حين قررت الرد على إسقاط الطائرة الحربية، وهو ما جعلها تتراجع مئة خطوة إلى الوراء، خصوصاً بعدما فرضت عليها هذه الواقعة قواعد اشتباك جديدة في الميدان وفي الجو.
إيران
العودة إلى الوراء، جعلت إسرائيل «المتفوّقة»، تلجأ مجدداً إلى «الحرب الإعلامية»، وهو السلاح القوي الذي لطالما استخدمته الحركة الصهيونية منذ بداياتها، فكان التركيز الإعلامي على التواجد الإيراني في سوريا و«الخطر النووي» الذي تشكله طهران، وذلك في محاولة لإخفاء فشل المواجهة مع الجيش السوري والمقاومة في لبنان من جهة، ولدغدغة مشاعر دونالد ترامب من جهة أخرى.
ومع ذلك، فإنّ الأداء الدعائي الإسرائيلي بدا أكثر ضعفاً من أي وقت آخر، ليكرّس ذلك التراجع، الذي تبدّى في إطاره الكوميدي الأسود، في «الصيد الثمين» الذي عرضه بنيامين نتنياهو عن «القدرات النووية» للجمهورية الإسلامية، والذي لم يقنع أحداً، لا في الخارج، ولا حتى في الداخل الإسرائيلي.
كان لا بد من خطوة لحفظ ماء الوجه في تل أبيب، وهو ما قامت به إسرائيل، عبر الضربة الصاروخية الثلاثية على سوريا، على خلفية الملف الكيميائي المزعوم.
وعلى هذا الأساس، سعت إسرائيل إلى تنفيذ «انقلاب جوي» على قواعد الاشتباك الجديدة التي فرضت عليها بعد إسقاط الـ«أف –١٦»، فجاءت سلسلة الهجمات التي شنتها من الأجواء اللبنانية على مواقع متعددة في سوريا، وهو ما أحبطه محور المقاومة بشكل مفاجئ، حين كسر الجمود المفروض على الجبهة الجولانية، في إطار ما بات يعرف بـ«ليلة الصواريخ».
«ليلة الصواريخ» هذه، شكلت فصلاً جديداً من المسرحية الهزلية التي باتت إسرائيل تلعب دور البطولة فيها، فهي كرّست انقلاب المشهد، الذي كان فيه القادة العسكريون والسياسيون يسخرون من بيانات «الرد في الوقت المناسب»، حين كان الأمر يتعلق بالجيش السوري، فها هو التعبير ذاته يأتي على لسان المتحدث العسكري الإسرائيلي، مضافاً إليه بعض التوابل من قبيل «الغارات شكلت ضربة غير مسبوقة للميليشيات الإيرانية»، وهو إعلان يدرك القاصي والداني أنه لا يصلح سوى لأن يكون «تغريدة» على موقع «تويتر» في إطار الحملة الدعائية الإسرائيلية بأن صراعها مع إيران وليس مع العرب.
وفي غزة
أمام التطورات المعاكسة، كان لا بد لإسرائيل أن تبقي على وتيرة المواجهة المزعومة مع «الميليشيات الإيرانية» فتكررت العبارات التويترية ذاتها، حين قررت شن الغارات على مواقع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لاستعادة «هيبتها» المفقودة، على وقع المجازر الأسبوعية التي يرتكبها «الجيش الذي لا يقهر» بحق المتظاهرين الفلسطينيين العزل عند الجدار الأمني الفاصل بين القطاع المحاصر والأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948.
ولكن حتى الاعتداء على الفلسطينيين لم يمر دون رد قاس ذكر تل أبيب بهشاشة أمنها في أية مواجهة مفتوحة، حيث أظهرت الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية قدرة على الردع بإمطار المستوطنات القريبة من القطاع بالصواريخ وصولاً إلى مدينة عسقلان، لتعود في غضون ساعات، حالة الهدوء قطاع غزة مع سريان التهدئة وتعليق عدوان «البرق الرمادي»، بعدما وافقت «سرايا القدس» و«القسام» على الهدنة مع الاحتفاظ بحق الرد في حال أي خرق إسرائيلي.
الجنوب السوري
لم تنته فصول المأزق بعد، فالجنوب السوري، الذي لا يزال حتى الساعة، الميدان الوحيد المتاح أمام إسرائيل للتصعيد العسكري –خصوصاً بعد توجّه المقاومة الفلسطينية إلى سحب كل ذرائع التصعيد– بات اليوم تحت المجهر الروسي، في ظل ما يتردد عن محادثات تجري على أعلى مستوى، للعودة إلى تفاهمات هامبورغ بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وبالتالي إدراج الجبهة الجنوبية ضمن مناطق خفض التصعيد، بما يتطلب ذلك من اتفاق على انسحاب «حزب الله» و«الحرس الثوري»، في مقابل انسحاب المجموعات المعارضة المسلحة وتسليم أسلحتها، مع انتشار الجيش السوري والشرطة العسكرية الروسية على طول تلك المنطقة الممتدة من الجولان وصولاً إلى مثلث الحدود السورية–الأردنية–العراقية.
وتشير دعوات الكرملين الأسبوع الماضي لخروج غير السوريين من الجنوب السوري، إلى مساع روسية لسحب البساط من تحت أقدام البروباغندا الإسرائيلية وانتزاع «الذريعة الإيرانية» من إسرائيل في إطار المساعي لاستعادة الدولة السورية لسيطرتها الكاملة على الجنوب (درعا والقنيطرة) وكامل الأراضي السورية تباعاً.
في الظاهر، قد ينظر البعض إلى الموقف الروسي بعين الريبة، ولكن نظرة أكثر اتزاناً، ستظهر أن المبادرة الروسية، إن نجحت، ستسحب من إسرائيل قرار الحرب مجدداً، وستكرّس قواعد اشتباك جديدة، تكون معها إسرائيل المتعطشة للحرب والعاجزة عنها، أمام خيار من اثنين: إما الاذعان للمعادلة الجديدة… وإما الذهاب إلى مقامرة عبر شن حرب شاملة، لا شك أنها غير قادرة على تحمّل تبعاتها!
Leave a Reply