في بداية مسرحيّة «صح النوم» للأخوين رحباني، تردد فيروز هذه الكلمات بين الأهالي المنتظرين وصول الوالي ليختم لهم معاملاتهم. يسألها الناس: شو هيِّ التركيبة يا قرنفل؟ (قرنفل هو اسم السيِّدة فيروز في المسرحيّة) فترد مؤكدَّة لهم:
تركيبة وخيمة كراكوز كيف رح يقدر الوالي يختِّم كل هالطلبات يللي بإيدين الأهالي ما زالوا بينام شهر وبيوعى يوم بالشهر وما بيمضي إلَّا ثلاثة، ثلاث معاملات، ثلاثة وبس تركيبة، أي تركيبة وخيمة كراكوز!
والتركيبة لها معنى آخر، التفنيص، التجليط. والناس تفنِّص، والساسة وأولو الأمر يفنِّصون، هنا في ديربورن وفي لبنان وكل مكان.
النساء تفنِّص والرجال أيضاً «وكلو ماشي». قد تكون معظم التفنيصات بيضاء وبعضها بالألوان، والجميع يقبل هذا وذاك حتى ولوكان للتفنيص آثار ضارة بعيدة المدى.
ويقول المحللون إنَّ الإنسان يفنِّص كما يتنفَّس، أي أنها عادة من الصعب تركها، وكما يموت الإنسان طبياً إذا لم يتنفَّس، قد يموت اجتماعياً إذا لم يفنِّص.
مئات من البشر مهنتها التفنيص، عملها يُحتِّم عليها أن تفنص بعض الوقت. إمَّا إذا كان شديد البراعة، فإنَّه يفنِّص طوال الوقت، يسمونها ديبلوماسيَّة.
هنا في ديربورن، كثيرون في سبيل تحسين صورتهم، يوغلون في التفنيص والتراكيب. رغم أننا جميعاً أتينا من بيئة واحدة، «ومين عرف أمو وأبوه هانت الدنيا عليه».
تسمع أحدهم أنه سليل أسرة عريقة، وأن والده من كبار رجال الأعمال، وهو شخصيَّاً كان مدير بنك في البلاد، وزوجته مديرة مدرسة وأن بيته ثمنه نصف مليون دولار… والحقيقة أن والده صاحب دكان متواضع، وهو وزوجته كانت موظفين عاديين، أمَّا الأسرة العريقة فليس لها وجود إلَّا في خياله.
هذه الادعاءات من السهل كشف حقيقتها، لكن التفنيصة والتركيبة وخيمة كراكوز في ديربورن، هي هؤلاء الذين ينطبق عليهم المثل القروي مع الأسف للتعبير «الشروال مهتري والدِّكة حرير»، فهو مؤيد عنيد للمقاومة في لبنان ومحب لأمينها العام وهدفه بتحرير فلسطين، وهو القانون والإصلاح والديمقراطيَّة، ويلعن هالبلد وهالغربة، من أين؟ من جلسات القهاوي في ديربورن وتدخين الأركيلة. «أركيلة الحلم العربي»، كما سماها المرحوم غازي قهوجي. بالفعل «خيمة كراكوز»، تنظيرات وشعارات وكلام «كبير أوي»، وعند أقل مخالفة لرأيه، يا أرض اشتدِّي وما حدا قدِّي. فيجلس على كرسيه الوثير، يشرب من فنجان قهوته ويغرق في كتاباته العنترية على الفيسبوك.
في العام 1955 قررت روزا باركس الجلوس على المقعد الأمامي في أحد الباصات مع أنه لا يسمح للزنوج إلَّا بالجلوس على المقاعد الخلفيَّة. تحولت بخطوتها الجريئة تلك إلى «أم الحقوق المدنيَّة».
أحياناً أفراد يصبحون في حجم شعب. أفراد أصحاب قيَم وأخلاق في عالم متعجرف، يقرر فرد فيه أن يتحدَّى الظلم، بالعمل والإخلاص، وليس بالتفنيص والتجليط. تركيبة يا قرنفل!.
Leave a Reply