بات تفلت الوضع الأمني في البقاع الشمالي في لبنان (بعلبك–الهرمل) يشكل لغزاً حقيقياً ومحيّراً. رئيس الجمهورية ميشال عون يؤكد العزم على إعادة الاستقرار إلى المنطقة، «حركة أمل» و«حزب الله» يرفعان الغطاء السياسي عن أي مرتكب مهما علا شأنه. مجلس الدفاع الأعلى يتخذ القرارات ويضع الخطط للجم الفلتان.. ومع ذلك، تستمر الفوضى الأمنية في استباحة القرى والمدن البقاعية التي تحول الكثير منها إلى مسرح للقتل والثأر والسرقة والخطف، من دون أن تتمكن أية جهة حتى الآن من وضع حد لهذا العبث المتمادي بمصائر الناس ومصالحهم.
وإزاء هذا الواقع المأساوي، حذر مسؤولون في الحزب والحركة من أن الكيل قد طفح وأن تحركاً شعبياً سيحصل في اتجاهات عدة ووفق وتيرة تصاعدية وتصعيدية، ما لم تبادر الدولة إلى حسم أمرها واستبدال ذراعها الخشبية بيد من حديد، خصوصاً أنه لا يوجد أي عذر أو مبرر لاستمرار التقاعس الرسمي في التعامل مع المجرمين، في ظل الإجماع الحزبي والشعبي على ضرروة اجتثاثهم من جذورهم.
ومن تداعيات الأمن المفقود أنه يسهم أيضاً في تعطيل فرص الاستثمار التي من شأنها أن تخفف نسبياً من وطأة الحرمان والاهمال بحق البقاع الشمالي، إذ لا إنماء في ظل الفلتان، ولا استثمارات للقطاع الخاص من دون بيئة آمنة.
تواطؤ
هي بضع عصابات، معروفة بالأسماء والأعداد، تخطف منطقة بأكملها وتشوه صورتها وتضرب سياحتها وتستنزف اقتصادها وتروّع أهلها، على مرأى ومسمع من الجميع. والأخطر، أن هناك من يجزم بأن بعض الضباط والعناصر في الجيش وقوى الأمن «يحمون» العديد من الرؤوس الكبيرة والمتورطة في الإجرام، بدل ملاحقتها ووضع حد لها. ويؤكد المطلعون على خفايا الوضع في البقاع الشمالي أن رموز العصابات وشبكات الاجرام تمكنوا من «شراء» بعض ضعاف النفوس في القوى الأمنية والعسكرية، سواء عبر دفع الرشاوى لهم في مقابل تأمين الحماية وتسهيل المرور أو حتى عبر ترتيب شراكة سرية معهم في بعض الصفقات والعمليات.
ويكشف العارفون عن أن العديد من المطلوبين للعدالة بجرائم المخدرات والسلاح، كانوا يتلقون من المتواطئين معهم في الأجهزة الرسمية إشعاراً مسبقاً بضرورة إخلاء منطقة معينة والتواري عن الأنظار، عندما كان يجري التحضير لحملة أمنية أو لمداهمة أماكن محددة، بحيث أن القوة المكلفة بالتحرك أخفقت المرة تلو الأخرى في إلقاء القبض على مطلوبين فارين، بفعل تسريب خطة سيرها وتحركها من قبل أمنيين وعسكريين أصبحوا أشبه بأحصنة طروادة في مؤسساتهم، ولا يترددون في تأمين التغطية والمظلة لاصحاب الارتكابات.
وقد زار مؤخراً وفد من نواب «حزب الله»، يرافقه رئيس بلدية بعلبك، قائد الجيش العماد جوزف عون، وعرض له معاناة الناس وشكواهم من تفاقم الفلتان الأمني. وتطرق أحد أعضاء الوفد إلى مسألة تورط ضباط في تسهيل أمور العصابات، فدعا قائد الجيش إلى إعطائه أدلة تثبت تورط هؤلاء حتى «أقطع رؤوسهم»، معتبراً أن المعالجة الجذرية للوضع المتردي في بعلبك–الهرمل تحتاج إلى مقاربة ثقافية–اجتماعية شاملة وليس فقط إلى الحزم والشدة.
موقف الجيش
وفيما تفيد المعلومات أن الجيش يُحضّر ضربة قاسية للعابثين بالامن والقانون في البقاع الشمالي، أبلغ مصدر عسكري بارز «صدى الوطن» أن الاستعدادات جارية لتنفيذ عملية نوعية من شانها أن تعيد الامن والاستقرار إلى ربوع بعلبك– الهرمل، مشيرا إلى أن الضباط كانوا يضطرون إلى التواصل مع وجهاء العشائر والعائلات عند حصول اي مواجهة من اجل احتواء التوتر، وهذا ليس تخاذلا بل هو سلوك واقعي وحكيم تفرضه تركيبة المنطقة.
وكشف المصدر العسكري عن أن «مداخلات واتصالات كانت تتم معنا في السابق لإطلاق سراح هذا الموقوف أو ذاك، ونأمل في أن الضغوط والتدخلات ستتوقف كلياً الآن بعدما رفع الجميع الغطاء عن المرتكبين، ووصل الفلتان إلى حد غير مقبول ولا يمكن تحمله»، موضحاً أنه ستجري الاستعانة بوحدات عسكرية من خارج المنطقة لتنفيذ العملية المنتظرة، ليس بسبب عدم الثقة في القوى المنتشرة هناك وإنما لعدم إمكان سحبها من المواقع التي تنتشر فيها على طول الحدود الشرقية حيث تتولى حماية تلك الحدود بعد طرد المجموعات الإرهابية من الجرود.
يبقى أن اختباراً مفصلياً للحضور والهيبة ينتظر الدولة اللبنانية في البقاع الشمالي النازف والمحروم من الإنماء والأمن على حد سواء، فهل تنجح فيه أم ترسب مرة أخرى، وعندها ستخسر ما تبقى من رصيدها ومصداقيتها لدى الناس.
من المفترض أن تتضح الصورة والنيات خلال الأيام المقبلة.
Leave a Reply