لقاء ترامب–بوتين: بوادر انفراج وتحوّلات كبرى في المنطقة
قبل أيام حلّت الذكرى السنويّة الرابعة لإعلان تنظيم «داعش» إقامة ما سمّي بـ«الخلافة». كلّ شيء تغيّر. غابت أخبار التنظيم التكفيري، ما عدا خبر يتيم بقتل «ابن الخليفة» أبي بكر البغدادي في مدينة حمص.
لم يعد «داعش» العامل المحدّد للحرب السورية، إلا بشكل هامشي، بعدما شكّل طوال السنوات الأربع الماضية عنواناً للصراع الذي سعت الولايات المتحدة لاستغلاله إلى أقصى درجة، رغبة في مزاحمة الدور الروسي الذي بات يُحسب له، سياسياً وعسكرياً، إنقاذ سوريا والمنطقة كلّها من ذلك الخطر الإرهابي، الذي تحوم الشكوك بشأن وظيفته الخادمة للمشروع الأميركي.
ليس الأمر مجرّد هزيمة فصيل إرهابي شكّل الخطر الأكبر على سوريا والعراق وروّع عواصم غربية وإسلامية، بعدما أخذ يبسط سيطرته على مساحات شاسعة من البلدين، وينذر بالكثير من التحولات العابرة للحدود المرسومة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
ما حدث في سوريا، هو نفسه ما حدث في العراق، مع فارق جوهري، وهو أنّ الولايات المتحدة لم تلعب دور «المنقذ» في بلاد الرافدين، بعدما بات القاصي والداني مدركاً بأن معركة الحسم ضد «دواعش» العراق، جرت بأيادٍ عراقية، وبدعم مباشر من إيران التي قدّمت المساندة الكاملة لقوات «الحشد الشعبي».
على هذا الأساس، لن يكون بإمكان دونالد ترامب أن يطلب من العراق أو سوريا دفع «فاتورة» إلحاق الهزيمة بـ«الدواعش»، ومن ضمنها مساعي تعزيز النفوذ الأميركي في الشمال السوري، وذلك على عكس الرئيس فلاديمير بوتين، الذي بات اللاعب الدولي الأكبر في سوريا، إن لم يكن الأوحد.
قمة هلسنكي
مما لا شك فيه أن الخريطة الميدانية في سوريا، بعد أربعة أعوام على إعلان «الخلافة» المزعومة، ونحو سبعة أعوام ونصف العام على بداية الأزمة السورية، تجعل الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب أمام قواعد لعبة جديدة، مختلفة كلّياً عمّا كانت عليه في عهد باراك أوباما الذي تنبأ أن يستمر تنظيم «داعش» لعقود قادمة وأن يسقط النظام السوري في غضون أسابيع أو أشهر.
من المؤكد أن ترامب، وبخلاف الصورة المتشددة التي يسعى البعض للترويج لها من خلال تصريحاته وخطواته الاستعراضية، يتمتع بقدر كبير من البراغماتية، لا سيما في الملف السوري، خصوصاً بعدما فشلت كل المحاولات السابقة لتقويض الدور الروسي وإسقاط النظام السوري، والتي كان آخرها قبل أسابيع قليلة، حين أثير موضوع «كيميائي» الغوطة الشرقية المزعوم، والذي استتبع ضربة صاروخية استعراضية لم تغيّر شيئاً في المعادلة.
في إطار تلك المعادلة، تنعقد القمة التي طال انتظارها بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في ١٦ تموز (يوليو)، أي بعد يوم من اختتام «المونديال»، الذي نجحت روسيا من خلاله في مواجهة محاولات «العزلة» الدولية.
وليس خافياً أن الجانبين الروسي والأميركي يراهنان على هذه القمة لحل الكثير من القضايا الشائكة، وهو توجه تعكسه تصريحات الجانبين وسيل التحليلات والتسريبات في وسائل الإعلام الأميركية خصوصاً، التي يمكن اختزالها بالرهان على ما سيخرج به ترامب وبوتين من اتفاقات حول قضايا ونزاعات متعددة، كما جرى في الماضي، وفي القلب منها الملف السوري.
تطورات ميدانية
تدرك روسيا جيّداً، وفق ما استخلصته من تجارب الماضي والحاضر، أن لقاءً على هذا المستوى بين زعيمي الدولتين الأكثر تأثيراً في العالم، لا بد أن يقترن بامتلاك أوراق قوة، يمكن على أساسها انتزاع الكثير من التنازلات، بالتراضي.
وبهذا المعنى يمكن ربط التطورات الجارية في محافظة درعا بالجنوب السوري باللقاء البوتيني–الترامبي نفسه، وهو ما دفع بالمجموعات المسلحة إلى السعي للقيام بأمر مماثل، حين اختارت وقف المفاوضات، واختيار التصعيد العسكري بديلاً عن المصالحات السياسية والميدانية، ولكن بهامش مناورة ضيّق للغاية، في ظل التحوّلات الميدانية التي مكنت الجيش السوري من قلب المعادلة.
لقد بات ملف الجنوب السوري اليوم أمام خيار من اثنين، لا ثالث لهما: فإمّا أن تقبل الفصائل المسلحة بعروض المصالحة التي تبدي الدولة السورية رغبة فيها، لوقف إراقة الدماء، وإمّا الحسم العسكري، بدعم روسي مباشر، وهو حسم لن يتأخر كثيراً في ظل المعطيات العسكرية والسياسية الجديدة، التي تتجاوز الميدان السوري، والتي تتبدى في الموقف الإسرائيلي والأردني المتحفظ عن تقديم الدعم للمسلحين، على عكس ما جرى خلال السنوات الماضية.
في هذا الإطار، يكفي رصد يومي لما يصدر عن الصحف الإسرائيلية للقول بأن تل أبيب باتت مسلّمة بأن لا شيء سيقف أمام التحوّلات في جنوب سوريا، وإن كانت تسعى لعدم الاعتراف بالهزيمة عبر استحضار عبارات «تعزية» من قبيل أن الجيش السوري لا يشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل، مقارنة بالحرس الثوري الإيراني!
هذا الأمر الواقع يجعل إسرائيل تستعد إلى مرحلة ما بعد السيطرة المرجحة للجيش السوري على الجنوب، بمحاولة جني «فتات» المكاسب من قمة ترامب–بوتين، وهو ما يجعل رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يتسلل كالهرّ، كما هي العادة، إلى موسكو لحضور «حدث رياضي» قبل يومين من القمة الروسية–الأميركية، ساعياً إلى لقاء الرئيس بوتين، بهدف التحريض على إيران من جهة، والمطالبة بأقصى الممكن، وهو إعادة العمل باتفاق فصل القوات للعام 1974، من دون أية تعديلات، حال انتشار الجيش السوري في الشطر المحرر من الجولان.
انتصار سوريا
انطلاقاً من كل ما سبق، فإنّ المؤشرات الميدانية والسياسية معاً، تشي بأن روسيا على قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن الجنوب السوري، على نحو يعكس الكثير من التحوّلات التي تكرّس انتصار الدولة السورية.
وعلى هذا الأساس، فإنّ معالم المفاوضات بشأن الجنوب عموماً، وسوريا بشكل عام، لم تعد خافية على أحد، فالكل بات مدركاً للحقائق الجديدة على الأرض، بعد قرابة ثلاثة أعوام على التدخل العسكري الروسي، وبالتالي فإنّ المعسكر المناهض لسوريا وروسيا، بات يبحث عن «باب الخروج» بأقل الخسائر الاستراتيجية.
بذلك، قد تقود التسوية الأميركية–الروسية، إن نجحت، في انسحاب «كل القوات الأجنبية» من سوريا، وفق الأدبيات الروسية، وهذا يعني بدء خطوات تدريجية لانسحاب الأميركيين من قاعد التنف عند مثلث الحدود السورية–العراقية–الأردنية، في مقابل خطوات تدريجية مقابلة لسحب القوات الإيرانية، علاوة على ضمان موافقة إسرائيلية، لا لبس فيها، على انتشار الجيش السوري على طول الحدود مع الجولان، أي العودة إلى ما كانت عليه الحال قبل بدء الأزمة السورية، علاوة على وقف الدعم الإسرائيلي للمجموعات المسلحة، والذي سعت تل أبيب من خلاله إلى تكرار تجربة «الجدار الطيب» مع لبنان في أواخر السبعينيات، وخطوات أردنية من قبيل الإقفال التام للحدود، وإنهاء أي وجود مسلح على طولها، وإقفال مكاتب المعارضة السورية في عمان، وتسليم النقاط الحدودية إلى الجيش السوري.
ماذا عن إيران؟
بطبيعة الحال، فإنّ روسيا لن تجد صعوبة في التوصل إلى تفاهمات مع الشريك الاستراتيجي المتمثل في إيران، لإنجاح تسوية كهذه، طالما أنها تصب في مصلحة الدولة السورية، وطالما أن الحديث يدور حالياً عن خطوات تدريجية تقوم على معادلة الانسحاب الأميركي من قاعدة التنف في مقابل انسحاب القوات الايرانية و«حزب الله» إلى مسافة 40 كيلومتراً شمالي الحدود مع الجولان والأردن، وهو ما يفتح المجال أمام انسحابات كاملة، في مراحل لاحقة، حين ينتقل الحديث إلى إعادة ضبط الأوضاع في الشمال السوري، وهو أمر أكثر تعقيداً، بالنظر إلى ارتباطه بالأدوار الاقليمية الأخرى (تركيا على سبيل المثال) وقضايا الحل النهائي للأزمة السورية.
وأياً تكن الحال، فإنّ لقاء ترامب–بوتين قد يكون شاملاً بحيث يشمل كل الملفات الشائكة، بدرجات متفاوتة من الأهمية والأولويات، وهو ما قد يستتبع مناقشة الخطوط العريضة لتفاهمات شاملة، قد يكون في صلبها تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، وامكان إيجاد تسويات عابرة للحدود من اليمن إلى فلسطين، مروراً بليبيا، وصولاً إلى أوكرانيا، وباقي الملفات الشائكة…. ومع ذلك فإنّ سوريا تبقى نقطة البداية، كما يتضّح، وقد تكون الاختبار الأولي للتحولات الجديدة في العلاقات المرتقبة بين الولايات المتحدة وروسيا.
الجيش السوري يزحف جنوباً
حرّر الجيش السوري خلال الأسبوع الماضي عشرات القرى والبلدات في محافظة درعا، مواصلاً تقدمه باتجاه معبر نصيب الحدودي مع الأردن باسطاً سيطرته على العديد من النقاط والمخافر الحدودية.
وفي مؤشر على فعالية مفاوضات المصالحة وقرب انتهاء المعارك، سلمت العديد من الفصائل المسلحة أسلحتها في بصرى الشام والغارية الشرقية والغربية وصيدا إضافة إلى قرى وبلدات أخرى.
وبرغم انسحاب وفد الفصائل المسلحة من «محادثات بصرى» من دون اتفاق على التسوية، والتهديدات التي خرجت بفتح معارك شرسة، يبدو التصعيد السوري الذي تلا انهيار جولة التفاوض، مفتاحاً لعودة نحو مفاوضات أكثر «واقعية» من جانب الفصائل، أو لمعركة مفتوحة في الميدان، تميل الكفة فيها بوضوح لصالح الجيش السوري لاسيما بعد تراجع الولايات المتحدة والأردن عن دعم المسلحين.
ويتوقع الخبراء أن يستعيد الجيش السوري سيطرته على كامل المنطقة الحدودية مع الأراضي المحتلة والأردن جنوب سوريا في غضون الأسابيع المقبلة.
وأعلنت مصادر الجيش أن مسلحي المجموعات المسلحة تركوا مئات الأسلحة وأطناناً من الذخيرة في عدد من مناطق محافظة درعا التي سيطروا عليها منذ سبع سنوات.
وتواصل الحكومة السورية دعم التسوية السلمية في جنوب البلاد. ونتيجة للمفاوضات الناجحة التي قام بها الجانب الروسي، قام مسلحون في عدد من القرى في محافظة درعا بتسليم أسلحتهم ووافقوا على برنامج المصالحة وعلى نقل البلدات إلى سيطرة الجيش السوري.
يذكر أن منطقة خفض التصعيد في جنوب غربي سوريا أقيمت العام الماضي باتفاق بين روسيا والولايات المتحدة والأردن، وتشهد هذه المنطقة منذ أسبوعين تجدداً للقتال بين الجيش السوري وحلفائه من جهة والمجموعات المسلحة الرافضة للمصالحة من الجهة الأخرى.
Leave a Reply