حين شيدت أبنية المحاكم واعتُمدت مرجعية لفض النزاعات بين الأفراد أو بينهم وبين الجهات الداخلة طرفاً مقابلاً في الدعاوى، كان الشعار الذي يوحدها هو الميزان المجسم أو المرسوم الذي يتصدر واجهة كل بناية من مبانيها، بما يرمز إلى الأمل بوضع الأمور المتنازع عليها في نصابها من دون أن يُبخس حق لكلي الطرفين المتنازعين من حيث الاقتصاص من الظالم والانتصاف للمظلوم، فهل ينطبق هذا الشعار مع حقيقة الواقع ويلتزم به القضاة الذين أقسموا اليمين على أن يحكموا بالعدل بين الناس ويعطوا كل ذي حق حقه، أم أنهم ينصرون القوي على الضعيف؟
فمنذ أيام طالعتنا إحدى القنوات التلفزيونية بمشاهد مأساوية من حالات القضاء المنحرف الذي هز المشاعر وأوغر في القلوب جرحا بليغا مخلفاً المرارة في الأفواه، إذ عرضت مشهداً لأب معدوم الضمير وقاض معدوم الضمير هو الآخر، وقد تلخص المشهد بمتابعة طريقة تنفيذ حكم قضائي، حيث دخل الأب بمعية عدد من أفراد الشرطة إلى أحد المنازل في بيروت وهو يحاول سلخ طفل من بين أحضان أمه بالقوة تنفيذا لقرار المحكمة «الجرباء» التي افتقدت أدنى مراتب الرأفة والرحمة بالطفولة والأمومة معاً، بينما ظهر الطفل وهو متمسك بكفي أمه صارخاً بشدة وهو «يفرفر» كطير مذبوح فيما اثنان من أفراد الشرطة يمسكان به لانتزاعه من بين يدي امه كما لو كان مجرما مطلوبا للعدالة!
لم يتورع الأب أمام ذلك المشهد المأساوي بالعودة إلى إنسانيته، بل على العكس، اندفع محاولاً انتزاع الطفل من أمه دون أي اكتراث لتوسلاتها في أن تمنح طفلها الخائف، فرصة استرداد النفس لتهدىء من روعه أمام ذلك النفر المهاجم المدجج بالسلاح، ليتم جره كخروف العيد للذبح، من دون أن يرف جفن لأحد منهم حيث انتزعوه من أمه التي طغت علائم الانهيار على سحنتها، وهل هناك أشد إيلاماً من اقتطاع الفلذة من الكبد؟ وهنا انبرى أصحاب القلوب الرحيمة لمساعدة الأم والوقوف بوجه الحكم الجائر ليعيدوا الطفل إلى أمه.
إذا حدث ذلك في بلد نامٍ، فربما يهون الأمر، لكن أن تحدث مثل هذه الجريمة هنا في أميركا، فالأمر يستدعي إلى الدهشة المصحوبة بالخيبة! وإليكم الحكاية:
طفلة كانت تحيا مع أمها بعد الانفصال الزوجي لغاية بلوغها عامها الخامس، حيث سلخت عنها بأسلوب الكذب والتزوير وقلب الحقائق. كان الأب يعيش في ولاية والأم في ولاية أخرى، فجأة تذكر أن له طفلة بعد أن كبرت قليلاً وأصبحت تذهب إلى المدرسة في مرحلة التعليم الأولى، فاصطحب محاميه إلى المحكمة في منطقة سكناه، وقاما بتشويه الحقائق والإدلاء بالأكاذيب، فحكمت المحكمة بحضانة الطفلة للأب وإعادتها إلى الأم في فترات العطل المدرسية. وقفت الأم أمام القاضي ودموعها تملأ وجهها بينما الطفلة تصرخ متشبثة بأحضان أمها ولا تريد الابتعاد عنها، غير أن قلب القاضي كان يخلو من الرحمة، بل فوق ذلك أمر الشرطي بسحبها بالقوة وتسليمها لزوجة الأب الغريبة عنها.
ومما زاد في الطين بلة أن الأب تقدم مع محاميه الذي لا يهمه سوى كسب المال بطلب الحضانة الكاملة، وقد نالا مرادهما، بحيث منعت الأم من رؤية ابنتها إلا في دار سكنها مع أبيها.
والسؤال هنا يفرض نفسه: أين كان ذلك الأب عندما كانت الأم تربي الطفلة وتسهر الليالي وتحرم نفسها من كل شيء لكي تؤمن لابنتها احتياجاتها، بينما كان هو منشغلاً بمغامراته العاطفية والزواج والطلاق؟ وأين ضمير قاض رأى طفلة تضرب رأسها بأرض المحكمة وترفس كالطير المذبوح؟
Leave a Reply