بعد «قمة هلسنكي»
بدت اللقطة رمزية للغاية، بما يقود إلى الاعتقاد بأن من بادر إليها، كان مدركاً لأهميتها في كشف النوايا: خلال المؤتمر الصحافي بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هلسنكي، قدّم الرئيس الروسي لنظيره الأميركي كرة قدم «مونديال – روسيا 2018» هدية تذكارية، وخاطبه قائلاً: «الكرة الآن في ملعبك».
التقط ترامب الكرة، شاكراً بوتين على هذه الهدية، قبل أن يرميها إلى زوجته ميلانيا، طالباً منها أن تعطيها لابنهما بارون البالغ من العمر 12 عاماً.
كانت الهدية–الرسالة بالنسبة إلى بوتين واضحة: لقد قدّمت روسيا كل ما لديها من مبادرات لتسوية العلاقات الشائكة والمعقدة مع الولايات المتحدة، والكرة الآن باتت في الملعب الأميركي.
أما رد فعل ترامب، الذي بدا عفوياً، فلم يتأخر الرد من واشنطن العميقة: الرئيس الأميركي ليس صاحب الكلمة الفصل في الولايات المتحدة حين يتعلق الأمر بالعلاقات مع روسيا، فثمة لاعبون أكثر تأثيراً في الداخل الأميركي، ما زالوا مصرّين على مقاربة العلاقات الدولية بأسلوب «صبياني»، كما لو أن العالم كرة قدم.
بوادر إيجابية
حين توجه إلى هلسنكي لعقد القمة التاريخية مع بوتين، قال ترامب إنه يريد تحسين العلاقات مع روسيا، التي وصفها بأنها اليوم أسوأ من أي وقت مضى.
وبعد اجتماع استمر ساعتين، وافق رئيسا الدولتين على إحياء التعاون الثنائي وتحسين العلاقات، بدون أن يذكرا أية قضايا محددة، الأمر الذي شكل مصدر ارتياح عام، خصوصاً أن الإطار العام للمحادثات الثنائية، خالف التوقّعات المسبقة، بأن بوتين سيضغط كثيراً على ترامب في عدد من القضايا، وهو ما قوبل بارتياح كبير من قبل ترامب نفسه، الذي كان يخشى أن يجد نفسه مضطراً لتقديم «تنازلات» بشأن ملفات مثل شبه جزيرة القرم أو اتفاق ضمني حول سوريا، وهو ما أسس لأرضية مناسبة للحوار الاستراتيجي، الذي يمكن البناء عليه مستقبلاً.
هذه الأرضية المشتركة سادتها واقعية متبادلة، خلال القمة، عبّر عنها الرئيس الروسي، حين أجاب بدهاء شديد على سؤال –فخ– لأحد الصحافيين الأميركيين حول الأسباب التي يمكنها أن تجعل الأميركيين ورئيسهم يثقون به، قائلاً «في ما يتعلق بالسؤال حول من يمكن الوثوق به، ومن لا يمكن الوثوق به، أقول إنك لا يمكنك أن تثق بأحد، وليست الفكرة أن الرئيس ترامب يثق بي أم أنني أثق به؟ هو يدافع عن مصالح الولايات المتحدة، وأنا أدافع عن مصالح روسيا الاتحادية».
الدولة العميقة
كل ما ورد في المحادثات بين ترامب وبوتين، لم يكن كافياً بالنسبة إلى صقور «الدولة العميقة» في الولايات المتحدة للانقلاب على قمة هلسنكي. من هنا كان لا بد من البحث عن الورقة الأكثر تأجيجاً للعلاقة، وهي التحقيقات بشأن التدخل الروسي المزعوم في انتخابات الرئاسة الأميركية.
في المؤتمر الصحافي مع بوتين، بدا ترامب وكأنه يعطي أهمية أكبر لإنكار الرئيس الروسي بشأن الدور الروسي، ناسفاً تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية، التي تقول إن روسيا تدخلت فعلاً في الانتخابات الرئاسية.
في موازاة ذلك، جاء كلام بوتين بأنه كان يأمل في فوز دونالد ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، في انتخابات العام 2016، بمثابة رسالة إيجابية للغاية بشأن إمكانية التعاون مع «براغماتية» الرئيس الجمهوري، من دون أن يحمل هذا التصريح أيّ تلميح يمكن أن يمسك به صقور «الدولة العميقة».
بهذا المعنى فإنّ الأداء العقلاني لفلاديمير بوتين كان يمكن أن يشكّل تمريرة لدونالد ترامب لكي يتملّص من أي موقف مباشر، يمكن أن يثير عاصفة من الانتقادات في وجهه، لدى عودته إلى الولايات المتحدة، على غرار هفوة: «لا أرى أي سبب يدفع إلى القول بأن روسيا هي التي قامت بعملية التدخل».
وهي الهفوة التي حرص ترامب على تصحيحها في أول ظهور له بعد عودته من جولته الأوروبية بإضافة كلمة «لا» لتصبح عبارته: «لا أرى أي سبب لا يدفع إلى القول بأن روسيا هي التي قامت بعملية التدخل».
بطبيعة الحال، فإن كل التوضيحات التي سعى ترامب لإطلاقها رداً على عاصفة الانتقادات، لم تكن كافية لوقف اندفاعة «الصقور»، لا بل أن الأمر بدأ يتجاوز الحدود، عند كثيرين من خصوم ترامب من الديمقراطييين والجمهوريين، الذين تعمدوا الوقوف عند هذه النقطة لانتقاد أداء الرئيس الأميركي في القمة، وصولاً إلى حد اتهامه بالخيانة والمطالبة بانقلاب عسكري للإطاحة به.
براغماتية ترامب
بطبيعة الحال، لا يمكن النظر إلى الجدل الحاصل داخل الولايات المتحدة انطلاقاً من مجرّد «زلّة لسان» مرتبطة بالانتخابات، فالواضح، منذ تسلّم ترامب مفاتيح البيت الأبيض، أن السياسات الخارجية المتشددة، التي نتتهجها «الدولة العميقة» في أميركا («الاستابلشمنت»)، مناقضة تماماً لتلك التي يعتمدها الرئيس الجمهوري، الذي يبدو مستعداً لمقاربة «شديدة البراغماتية» على المستوى السياسي، لضمان مكاسب ضخمة على المستوى الاقتصادي.
وحين يتعلق الأمر بروسيا، فإنّ ترامب يبدو أكثر استعداداً من أيّ رئيس آخر لتطبيع العلاقات المتوترة، في مقابل تفاهمات كانت نقاشاتها في صلب محادثات قمة هلسنكي، ومرتبطة خصوصاً بملف الغاز.
ولعل ما يزيد الأمور تعقيداً بالنسبة إلى ترامب أن مقاربته للعلاقات مع بوتين لا تلقى تأييداً كبيراً حتى بين الجمهوريين، لدرجة أن كثيرين منهم ذكّروا رئيسهم بأن روسيا خصم للولايات المتحدة منذ فترة طويلة، وبأنها خط أحمر لدى الطبقة السياسية الجمهورية.
بذلك، فإنّ ما يجري اليوم في الولايات المتحدة يشي بأن النظام السياسي الأميركي مقبل على صراع عنيف، يسعى خلاله «الصقور» إلى تغيير التوازن الداخلي ودفع الكونغرس على انتزاع السيطرة على السياسة الخارجية، وهو ما عبّر عنه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور الجمهوري بوب كوركر بالقول إن «الوقت قد حان لينتقل الكونغرس إلى السرعة القصوى ويستعيد صلاحياته».
ومع ذلك، فإنّ المعركة الداخلية تبدو متكافئة الفرص بين ترامب ومعارضيه، خصوصاً أن مصير العديد من السياسيين الجمهوريين مرتبط بشعبية رئيسهم، وبالتالي فإنّ أية محاولة لكبح الرئيس يمكن أن تبوء بالفشل.
بوتين المنتصر الوحيد
وفي خضم هذه المعركة المفتوحة، يبدو فلاديمير بوتين المنتصر الوحيد، حتى الآن، مما خرجت به قمة هلسنكي، بعدما رمى الكرة في ملعب ترامب، فاللقاء بحد ذاته كان انتصاراً للكرملين الذي كان يسعى منذ زمن طويل لتنظيم مثل هذه القمة، غير أنها كانت تصطدم حتى الآن بتمنع واشنطن، وبالتالي فإنّ ما جرى في هلسنكي بالنسبة إلى بوتين كان اعترافاً غير رسمي بأن روسيا قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة.
هذا الانتصار لم تخفه المؤسسة السياسية والعسكرية الروسية، وهو ما يمكن رصده في تقرير نشرته صحيفة «روسيسكايا غازيتا» التي تصدّر التحليل عن قمة هلسنكي صفحتها الأولى بعنوان عريض «محاولات الغرب لعزل روسيا فشلت».
والملفت للانتباه في هذا الإطار أن الانتصار الروسي في هلسنكي ترافق مع إدراك روسي بأن القمة لن تتمخض عن انفراجات كبرى بشأن مسائل منها سوريا وأوكرانيا والحد من التسلح.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الجانب الروسي صبّ تركيزه على رمزية جلوس زعيم «أكبر قوة عظمى في العالم» وجهاً لوجه مع بوتين بعد أربعة أعوام من العزلة الدولية التي أعقبت ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014، وهو ما عبّر عنه عضو مجلس الاتحاد الروسي (الغرفة العليا في البرلمان) أليكسي بوشكوف بالقول: «من المضحك تذكر هراء أوباما وآخرين عن أن روسيا صارت قوة إقليمية ضعيفة! فاهتمام العالم كله انصب على هلسنكي، والأمر بالغ الوضوح لكل ذي عينين: مصير العالم تحدده روسيا والولايات المتحدة. زعيما أكبر قوتين على كوكبنا يلتقيان».
كيف رد بوتين على الانتقادات التي طالت ترامب؟
ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمسؤولية تشويه «قمة هلسنكي» على «قوى نافذة داخل الولايات المتحدة».
وقال بوتين إن تلك القوى تحاول تخريب ما حققته القمة التي جمعته مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكنه أضاف أن زعيمي البلدين سيمضيا قدماً على كل الأحوال في تحسين العلاقات الأميركية الروسية.
وتابع بوتين قائلا في تصريحات أدلى بها لدبلوماسيين روس من حول العالم الخميس الماضي: «كانت ناجحة بشكل عام وأدت إلى بعض الاتفاقات المفيدة. بالطبع دعونا نرى كيف ستتطور الأحداث بعد ذلك» دون أن يفصح عن طبيعة الاتفاقات التي أشار إليها.
وأضاف «نرى أن هناك قوى في الولايات المتحدة مستعدة للتضحية ببساطة بالعلاقات الروسية الأميركية.. من أجل طموحاتها في معركة سياسية داخلية في الولايات المتحدة».
ولم يذكر بوتين أسماء، لكنه تحدث عن سياسيين أميركيين يضعون «مصالحهم الحزبية الضيقة» قبل مصالح الولايات المتحدة ولهم نفوذ كاف يسمح لهم بفرض «قصصهم» المشكوك فيها على ملايين الأميركيين.
أبرز ما قاله ترامب وبوتين خلال قمة هلسنكي
عقد الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب في العاصمة الفنلندية هلسنكي لقاء مغلقاً وجهاً لوجه كان من المقرر أن يستمر ساعة ونصف الساعة، ولكنه استمر ساعتين وربع الساعة.
وبعد اللقاء المغلق بين بوتين وترامب، عُقد اجتماع موسع للوفدين الروسي والأميركي، وفي أعقابه أجاب الرئيسان عن أسئلة الصحفيين خلال مؤتمر صحفي مشترك في القصر الرئاسي في هلسنكي، أكد فيه الرئيس الأميركي أن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا «لم تكن أسوأ مما هي عليه» في الوقت الراهن، لكن ذلك «تغيّر» بعد القمة.
وأوضح ترامب أن «الدبلوماسية والحوار المثمر أفضل من النزاع والعداوة»، مشير إلى أنه خاض نقاشات «عميقة» مع بوتين.
وأضاف الرئيس الأميركي أنه بحث مع بوتين «مسألة التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية» وأن الرئيسين اتفقا على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلدين.
ومن جهته قال بوتين إن ترامب «يدافع عن مصلحة أميركا وأنا أدافع عن مصالح روسيا لكننا نبذل جهداً لكي نحقق مصلحة مشتركة».
وأضاف: «سنقوم بمتابعة الاتهامات حول تورط 12 ضابطاً روسياً في التأثير على الانتخابات الأميركية».
وفي الملفات الدولية، قال خلال المؤتمر الصحفي «تحدث كلانا مع بيبي (رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو) وكلانا يريد القيام بأمور معينة مع سوريا تتعلق بسلامة إسرائيل، مؤكداً «روسيا والولايات المتحدة ستعملان بشكل مشترك» في هذا الصدد.
وقال ترامب «توفير الأمن لإسرائيل شيء يود بوتين وأنا أن نراه بشكل كبير جداً».
وقال بوتين إن ترامب قضى وقتاً طويلاً يتحدث عن إسرائيل خلال محادثاتهما. وأضاف أن الظروف متوافرة لقيام تعاون فعال بشأن سوريا.
وقال ترامب إنهما يريدان أيضاً مساعدة الشعب السوري على أساس إنساني. وأضاف «جيشانا (الأميركي والروسي) متوافقان بشكل أفضل من زعمائنا السياسيين منذ سنوات. ونتوافق أيضاً في سوريا».
وقال ترامب أيضاً إنه شدد على أهمية الضغط على إيران وهي من حلفاء روسيا في حين قال بوتين إنه يفهم معارضة الولايات المتحدة للاتفاق النووي الدولي المبرم مع إيران والذي تؤيده روسيا.
كذلك أشار ترامب إلى نية الولايات المتحدة منافسة خط الأنابيب الروسي «نوردستريم ٢» الذي تنوي موسكو مده إلى ألمانيا، في خطوة وصفها الرئيس الأميركي سابقاً بأنها ستجعل برلين «رهينة» بيد الروس، مؤكداً عزمه على تزويد أوروبا بالنفط والغاز الأميركي.
Leave a Reply