من التهديد إلى الدعوة للّقاء بدون شروط
بشكل مفاجئ، استدار دونالد ترامب مئة وثمانين درجة في خطابه الإيراني.
الرئيس الأميركي، وعلى نحو غير متوقع، أبدى استعداداً لإجراء محادثات مع الجمهورية الإسلامية «من دون شروط مسبقة»، مثيراً الكثير من التساؤلات والتكهّنات، حول ما إذا كان الموقف الجديد نابعاً من رغبة في التراجع عن «حافة الهاوية» أو التمهيد لما هو أخطر!
المثير في الإعلان الترامبي أنه جاء ليكرّس، وإن ظاهرياً، نهاية لمسلسل التراشق اللفظي والتصعيد الفعلي على الأرض ضد إيران، الذي بدأ خلال الحملة الانتخابية، التي تعهّد خلالها بإنهاء «تسوية فيينا» التي توصلت إليها مجموعة «5+1» مع الجمهورية الإسلامية في العام 2015، وبالتالي الانقلاب على توقيع سلفه باراك أوباما، وهو ما نفذه بالفعل في أيار (مايو) الماضي، حين أعلن عن انسحابه من الاتفاق النووي، لتعقب ذلك سلسلة خطوات تصعيدية بالغة الخطورة أبرزها التهديد بـ«عقوبات قاسية وموجعة»، والتلويح بشن الحرب، وصولاً إلى انتشار تقارير أخبارية حول مساعٍ لتشكيل ما يسمّى بـ«ناتو عربي».
قد يكون هذا التوجّه «الجديد» في المقاربة الترامبية مصدر ارتياح لكثيرين، ولا سيما للأوروبيين، الذين يبذلون كل ما في وسعهم اليوم، لإنقاذ «تسوية فيينا»، حتى لا يجدوا أنفسهم محرومين من المزايا الاقتصادية التي توفّرها لهم عبر «فك العزلة الدولية» عن طهران وفتح السوق الإيرانية، بعدما تهافت وزراؤهم وكبار رجال أعمالهم بحثاً عن فرص استثمارية هناك.
التجربة الكورية
على هذا الأساس، فإنّ ثمة تفاؤلاً حذراً، استُقبل به تصريح ترامب الأخير، الذي يشي بمقاربة «براغماتية» قد ينتهجها سيّد البيت الأبيض مع إيران، كتلك التي قادته في حزيران (يونيو) الماضي إلى سنغافورة، فاتحاً كوّة غير مسبوقة في جدار العلاقات مع كوريا الشمالية، حين التقى بزعيمها كيم جونغ أون، وسط مناخات مفرطة في إيجابيتها.
في المقابل، فإنّ الواقعية السياسية تفرض عند كثيرين تشكيكاً كبيراً في مدى استعداد ترامب للذهاب في تكرار مقاربته مع كوريا الشمالية إزاء الملف النووي الإيراني، أو على الأقل مدى قدرته على القيام بذلك، في ظل عناصر الكبح الداخلية والخارجية، وفي ظل وضعية داخلية غير مريحة للرئيس الجمهوري مع استهدافه المستمر من خصومه الديمقراطيين، الرافعين لراية الحرب، على خلفية موقفه «المتراخي» تجاه مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية التي قادته إلى البيت الأبيض.
تكتيك داخلي؟
ومع ذلك، فإنّ ثمة إمكانية في أن تكون تلك الخطوة «الإيجابية» تكتيكاً صائباً لاحتواء الخصوم الداخليين، خصوصاً أن بعض الديمقراطيين قد ينظرون إلى أي تقدّم على المسار الإيراني على أنه إشارة إيجابية بشأن تراجع الرئيس الجمهوري عن سياسة الانقلاب على سلفه الرئيس الديمقراطي، وهو أمر قد يشكل خشبة خلاص لسيّد البيت الأبيض، إذا ما اقتضت التسوية المقايضة بين «سياسات خارجية» وبين «إقفال التحقيقات» بشأن التواطؤ المزعوم مع روسيا، وهو ما طلبه ترامب بالفعل من وزير العدل الأميركي، بعد يومين من خطابه المتجدد تجاه الجمهورية الإسلامية.
ولكنّ الأمر قد لا يكون بتلك البساطة، إذ من غير المضمون أن يتمكن الرئيس الأميركي من أن يبحر بسفينة سياسته الخارجية بعكس ما تشتهي رياح «الصقور» ضمن فريقه الرئاسي نفسه، خصوصاً بعدما باتت ملفات الأمن القومي في يد شخص مثل جون بولتون.
وإذا كان الانطباع العام السائد عند كثيرين ممن سمعوا خطاب «الانفتاح» الترامبي تجاه إيران قد بنوا تفاؤلهم وفق إسقاطات لتجارب سابقة، بدت فيها مواقف الرئيس الأميركي متذبذبة، على النحو الذي قد يقود البعض إلى الاعتقاد بأن ما يحصل مع إيران ليس إلا تكراراً لما حصل مع كوريا الشمالية، فإن الواقع الأقرب إلى الحقيقة هو ما جاء على لسان قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري: إيران ليست كوريا الشمالية!
بين كوريا وإيران
في واقع الأمر فإنّ ثمة فارقاً كبيراً بين الحالتين الكورية الشمالية والإيرانية، أهمّها على الإطلاق أنه في الأولى كانت دول الجوار، وعلى رأسها الصين وكوريا الجنوبية، تسعى لإيجاد حل، أما في الحالة الإيرانية فإن الأمر ليس كذلك، وهو على الأقل ما تشي به المواقف التصعيدية الهدّامة من قبل السعودية وإسرائيل.
الملفت للانتباه في هذا الإطار، أن ردود الفعل الإسرائيلية على «إيجابية» ترامب الأخيرة تجاه إيران باتت فاترة للغاية. وبخلاف ما كانت الحال في السابق، لم يثر كلام الرئيس الأميركي أيّ هلع في الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، المعروفة دوماً بلغة التحريض، حتى أن المناخ العام، الذي عكسته الصحافة الإسرائيلية، عكس قناعة راسخة لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب بأنّ لا تغيير في السياسة الأميركية تجاه إيران.
لعلّ هذا يبدو كافياً للاستنتاج بأنّ «استدارة» ترامب قد لا تكون سوى خطوة تكتيكية تهدف إلى كسب مزيد من الوقت في اللعبة التي تمارسها الإدارة الأميركية ضد إيران، وربما كسب مزيد من الأموال من الخليجيين الذين يهوون فتح خزائنهم أمام سيّد البيت الأبيض في مقابل التصعيد مع الجمهورية الإسلامية، وهو ما حدث أكثر من مرّة في عهد الرئيس الأميركي الحالي وسلفه.
هذا الأمر يكتسب بعداً جديداً، وربما يسيل لعاب دونالد ترامب أكثر على المال الخليجي، حين يتعلق الأمر بالمعلومات المتداولة حول تشكيل «ناتو عربي» في مواجهة إيران، وهو ما سيتم التهميد له في اجتماع يفترض أن تستضيفه العاصمة الأميركية في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
ووفقاً لما نقلته وسائل إعلام أميركية عن «مصادر» في البيت الأبيض فإنّ الغاية من هذا الاجتماع هي تعزيز التعاون بشأن الدفاع الصاروخي والتدريب العسكري ومكافحة الإرهاب وقضايا أخرى، مثل دعم العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية الإقليمية.
والخطة التي ترمي إلى تشكيل ما وصفه مسؤولون في البيت الأبيض والشرق الأوسط بنسخة عربية من حلف شمال الأطلسي أو «ناتو عربي» لـ«الحلفاء المسلمين السنة»، من شأنها على الأرجح أن تزيد التوتر بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، وبين الولايات المتحدة والأوروبيين أيضاً، خصوصاً بعدما تبدّى حجم الهوة بين «حلفاء الأمس».
فكرة سعودية
وبحسب ما يقول مسؤولون في البيت الأبيض فإن فكرة إقامة «الناتو العربي» جاءت من قبل السعوديين أنفسهم، وذلك خلال زيارة وفد أمني سعودي لواشنطن، قبيل زيارة قام بها ترامب العام الماضي إلى الرياض، حيث أعلن عن اتفاق ضخم لبيع الأسلحة، لكن اقتراح تشكيل «الحلف» ظل يراوح مكانه، إلى أن بدا الوقت مناسباً للدفع بالخطة إلى الأمام، وفق ما صرّح به متحدث باسم مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض الذي قال صراحةً إن «تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي سيشكل حصناً في مواجهة العدوان والإرهاب والتطرف الإيراني، وسوف يرسي السلام بالشرق الأوسط».
كل ذلك، يجعل الإجابة على التساؤلات المرتبطة بخطاب ترامب الأخير متّصلة بوجهة النظر الواقعية التي تذهب باتجاه توقّع مزيد من التوتر على خط واشنطن–طهران خلال الفترة المقبلة، وهو تصعيد مرشّح للتصاعد يوماً بعد يوم، مع اقتراب الخريف وموعد الانتخابات النصفية الأميركي واجتماع «الناتو العربي»، وهو أمر سيترك من دون أدنى شك تداعيات شاملة، لا سيما في الميدان اليمني، الذي بات نقطة الاشتباك الأساسية بين إيران والولايات المتحدة، خصوصاً مع بدء خروج الساحة السورية من الاستقطابات المباشرة، بعدما نجحت روسيا في فرض معادلتها هناك… ولعلّ الصواريخ «الحوثية» التي عطّلت الملاحة في مطار أبو ظبي قبل أيام من جهة، والعزف المتجدد على وتر الخلافات الداخلية في إيران من جهة ثانية، نذر قليل ممّا قد تحمله الأسابيع المقبلة من معارك.
ماذا قال ترامب؟
واشنطن، طهران – أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاثنين الماضي عن استعداده للالتقاء بقادة إيران «دون شروط مسبقة وفي أي وقت يريدونه»، من أجل بحث سبل تحسين العلاقات بين البلدين عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني، وذلك بعد أسبوع من تصاعد الحرب الكلامية بين واشنطن وطهران.
وصرح ترامب –في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي– قائلاً «سألتقي الإيرانيين إذا أرادوا، ولا أعلم ما إن كانوا مستعدين لذلك». وجاء تصريح الرئيس الأميركي جواباً عن سؤال عما إن كان مستعداً للاجتماع مع نظيره الإيراني حسن روحاني.
وأضاف الرئيس الأميركي «سألتقي مع أي شخص، أنا مؤمن بالاجتماعات، خاصة في الحالات التي يكون فيها خطر الحرب قائماً». وأوضح أنه سيطلب «عدم وجود شروط مسبقة».
يأتي هذا الموقف المهادن من قبل ترامب عقب أيام قليلة من تحذيره لروحاني من مغبة تهديد الولايات المتحدة، بعد أن وجه الأخير تحذيراً لترامب من نتائج تبني سياسات عدائية ضد طهران.
وقال الرئيس الأميركي لروحاني في تغريدة له على تويتر «إياك أن تهدد الولايات المتحدة مرة أخرى، وإلا فستواجه عواقب لم يختبرها سوى قلة عبر التاريخ». وأضاف «لم نعد دولة تتهاون مع عباراتكم المختلة بشأن العنف والموت.. احترسوا!».
وجاءت تحذيرات ترامب رداً على تغريدة لروحاني حذّر فيها مَن وصفهم بالأعداء مِن أن الحرب مع بلاده ستكون «أمّ الحروب»، وقد ردّ عدد من المسؤولين على كلام ترامب مؤكدين رفضهم الحوار مع واشنطن في ظل العقوبات القاسية التي تفرضها على إيران.
وبعد التغريدات النارية المتبادلة بيومين؛ هدّأ ترامب منسوب التصعيد قائلاً في تجمع انتخابي إن الولايات المتحدة مستعدة لإبرام اتفاق حقيقي مع إيران، وليس كالاتفاق الكارثي الذي وقّعته الإدارة السابقة؛ حسب وصف الرئيس الأميركي.
وتواجه إيران ضغوطاً أميركية متزايدة وعقوبات وشيكة بعد مرور شهرين على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وما تضمنه من إعادة إدارة ترامب العقوبات الاقتصادية على طهران.
ومن جانبها، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الوزير مايك بومبيو يؤيد تصريح الرئيس دونالد ترامب بأنه يرغب بالجلوس إلى مائدة التفاوض مع مسؤولين إيرانيين.
وأوضحت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية هيذر ناورت في حديثها للصحافيين أن الوزير بومبيو كان قد أعلن من قبل أن الرئيس ترامب يريد الجلوس مع قادة دوليين لحل المشاكل، بمن فيهم مسؤولون إيرانيون.
وأضافت ناورت أن واشنطن ترغب برؤية تغير في سلوك إيران ولكن «المهم هو أننا سنكون مستعدين للجلوس معهم وإجراء تلك المحادثات».
من جهتهم، رد مسؤولون إيرانيون، الثلاثاء، على تصريحات ترامب،، قائلين إنه إذا كان ترامب يرغب في إجراء محادثات مع بلاده فعليه أولاً أن يعاود الانضمام إلى الاتفاق النووي الذي انسحب منه في وقت سابق من العام.
Leave a Reply