كان عدد غير قليل من أجدادنا يمارسون زراعة التبغ في بلادنا الأم لتأمين مصدر رزقهم، حيث يتشارك أفراد العائلة في إنجاز مراحل الزراعة، بدءاً من غرس الشتلات وحتى أوان القطاف، فيسلمون المحصول إلى الدولة بأسعار تتفاوت حسب الجودة والنوعية.
ومع أن أولئك المزارعين كانوا يمتلكون بين أيديهم وفرة التبوغ إلا أن معظمهم لم يمارس عادة التدخين، إذ نادراً ما كنا نرى أحداً منهم تتلولب السيكارة بين إصبعيه أو ينفث دخانها، كما أن المدخن منهم كان يصنع لفافته بنفسه من دون أية إضافات اصطناعية أو كيميائية…
ثم ظهرت الأركيلة في ضيعتنا، بدايةً بـ«التنبك» ثم «المعسل» بنكهات محدودة.
كانوا يتفننون في صناعتها والاهتمام بها، من قزحية ألوان الخراطيم وتزيين دوارق الماء الزجاجية بالزخارف والمنمنمات والمحفورات لتظهر الأركيلة وكأنها من تحف الشرق، فأصبحت البيوت لاتخلو منها حتى أن البعض راحوا يطلقون الأسماء على أراكيلهم، وكان أحد أبناء بلدتنا يطلق على أراكيله المتعددة تسميات مستوحاة من أسماء بنات الضيعة بحسب الشكل والطول، فيسمي الطويلة بإحدى البنات الطوال والقصيرة بمثلها!
حين توافدنا إلى منقلبنا الأميركي الجديد وحط رحالنا في الديربورنَين، وجدنا أن الأركيلة قد لحقتنا كموضة العصر هنا!
الأمور باتت أكثر تعقيداً وإغراء وضرراً بصحة شبابنا، فأصبح التبغ (المعسل) يصنع بمختلف النكهات من التفاح والعنب والنعناع إلى فواكه أخرى ربما لم يأكلها بعضنا من قبل، مثل الـ«باشن فروت»!…
فنرى الشبان والشابات مصطفين في المقاهي وكل بين أصابعه خرطوم الموت الذي يستنشق من خلاله دخان السكر المحروق ليملأ أجواء المكان جارّا سحاباته إلى المحلات المجاورة حتى يخيل للناظر بأن هناك حريقاً يتأجج في المكان، لكنه يلتهم البشر دون الحجر.
شابات بعمر الزهور لم يبلغن سن ١٨ عاماً يتربعن على شرفات المنازل بين أصابعهن النحيلة خرطوم أطول منهن يخرجن الدخان الكثيف من أنوفهن وأفواههن كما لو كان ينبعث من عادم سيارة مستهلكة المحرك.
ألا تعرف الصبايا أن التدخين يؤثر على نضارة بشرة الوجه فتجعله باهت اللون فاقداً لحيويته، كما يجعل أسنانهن مصبوغة بلون الصفار المقرف؟ إن كل ساعة تدخين للأركيلة تعادل تدخين مئة سيكارة، كما أن أنبوب الأركيلة يختزن الجراثيم المؤدية إلى الأمراض التنفسية مثل داء السل، أما الفحم المستخدم فهو يحتوي أيضاً على مواد كيميائية سامة ناهيك عن القطران الذي يتسبب في تصلب شرايين القلب.
كل ذلك من أجل جرعة نيكوتين تسبب ارتخاء الأعصاب .. والإدمان!
تشير البحوث الطبية الموثقة من منظمة الصحة العالمية بأن التدخين يقصر من عمر الإنسان بحوالي عشر سنوات، وفيما يتعلق بالأماكن المغلقة فهي الأكثر خطراً على الصحة بسبب حفظ 60 بالمئة من الدخان داخلها مما يعرف بالتدخين السلبي.
وللأسف، مقاهينا هنا، إما في أماكن مغلقة أو في مواقف السيارات، حيث يختلط دخان الأركيلة بأدخنة السيارات والشاحنات العابرة.
المفاجأة هي أن تلك المقاهي تكاد لا تخلو من الأطباء الذين يتغاضون عن الأضرار التي يعرفونها حق المعرفة وقبل غيرهم من الناس، ولكن كيف ينصحونهم بالإقلاع عن التدخين وهم يمارسونه؟ أم أنهم كما يقول المثل: «طبيب يداوي الناس وهو عليلُ»؟
حقاً إنه خطر مستفحل في مجتمعنا وقد لا ندرك مدى خطورته قبل عقد أو اثنين، فليت شبابنا ينتبهون إلى صحتهم ومستقبلهم.. ألا تقول الآية الكريمة: «ولا تؤدّوا بأنفسِكم إلى التهلكة»؟
أبعد الله عنا وعنكم شرّ المرض.
Leave a Reply