الأرقام غير المسبوقة في الانتخابات التمهيدية بولاية ميشيغن الثلاثاء الماضي، يمكن أن تُعزى بلا مبالغة إلى حملة المرشح العربي الأميركي لحاكمية الولاية عبدول السيد رغم خسارته، وإلى الحركة «التقدمية» بقيادة السناتور الأميركي بيرني ساندرز، كما يمكن أن تُعزى –وبطريقة مثيرة للاستعجاب– إلى الرئيس دونالد ترامب ومواقفه العنصرية التي لا تنقطع.
الحماسة الانتخابية كانت مسيطرة في جميع المفاصل، من مراكز الاقتراع، إلى حفلات متابعة نتائج الانتخابات للمرشحين العرب والمسلمين الأميركييين، وانتهاء بالنصر المؤزر للعربية الأميركية رشيدة طليب التي أطلقت حملة شعبية مظفرة لتمثيل المحرومين في واحدة من أفقر الدوائر الانتخابية بالولايات المتحدة.
طليب، ابنة العائلة الفلسطينية المهاجرة، لم تتنصل من جذورها وثقافتها ونضال شعبها في الوطن الأم. في حفل النصر الذي أقيم في قاعة متواضعة بأكثر أحياء ديترويت فقراً، كانت محاطة بعشرات الديترويتيين الذين ستمثلهم تحت قبة الكابيتول بالعاصمة واشنطن، وبحضور والدتها المحجبة التي انتظرت حتى ساعات الصباح الأولى لكي تتوج ابنتها الفائزة بالعلم الفلسطيني!
انهمرت الدموع من عيني السياسية والناشطة الحقوقية التي دخلت تاريخ ميشيغن كأول مشرعة مسلمة في مجلس نواب الولاية، والآن تتأهب لكتابة صفحة جديدة من تاريخ العرب والمسلمين الأميركيين كذلك كأول مشرعة عربية مسلمة تنتخب لعضوية الكونغرس الأميركي.
في لحظة الاحتفال، كان العلم الفلسطيني على كتفيها شاهداً على ما قالته مراراً وتكراراً: «أعلم من أين جئت.. لقد كنت شاهدة على معاناة شعبي.. ولن أنسى».
طليب، بمعارضتها القوية والضارية لترامب وسياساته، وبالتزامها الراسخ تجاه ناخبيها، تمكنت من تحقيق النصر! وفي الطريق نحو النصر، لم تستسلم الفلسطينية لضغوط المؤسسات السياسية وأجنداتها، فشكلت بذلك مثالاً رائعاً لما تستطيع المجتمعات العربية والإسلامية تقديمه للخدمة العامة في الولايات المتحدة.
في 7 آب (أغسطس) سجلت رشيدة نصراً مذهلاً على خمسة مرشحين في دائرة محسومة تاريخياً للديمقراطيين، وترددت أصداء ذلك النصر، ليس في ميشيغن وحسب، بل في أميركا وفي العالم بأكمله!
بالمثل، قامت العربية الأميركية فيروز سعد بمحاولة مثيرة للإعجاب وأطلقت حملة انتخابية محترمة في «الدائرة 11» ذات الأرجحية الجمهورية. ورغم أنها فشلت باجتياز الانتخابات التمهيدية، إلا أنها نجحت بقيادة حملة تقدمية، بنتيجة مشرفة للجالية، رغم تشكيك الكثيرين الذي لم يثنها عن خوض غمار الخدمة العامة.
وبالعودة إلى المرشح عبدول السيد، فتأثيره في إلهاب سباق الحاكمية لا يمكن تجاهله، أو التقليل من شأنه، على الضفتين الديمقراطية والجمهورية، فهذا المرشح الشاب لعب دوراً محورياً في استقطاب هذه المشاركة غير المسبوقة للميشيغندريين في الانتخابات التمهيدية.
لقد حاول خصومه –في الأوساط الجمهورية والديمقراطية على حد سواء– بلا هوادة، وبصورة يائسة تشويه صورته، بعيد إعلان ترشحه، حيث أثيرت الشكوك حول مسألة إقامته في الولاية لإخراجه من السباق. وأخرى، عبر مهاجمة عقيدته الدينية واتهامه بالانتساب إلى حركة الإخوان المسلمين. وثالثة، بتشويه سمعته السياسية والتشكيك بقدرته على جمع الأموال وإطلاق حملة انتخابية موثوقة على مستوى الولاية. حتى رئيسه السابق، رئيس بلدية ديترويت مايك داغن وقف ضده محاولاً خنق حملته التقدمية.
لم ينته مسلسل الاتهامات والتشكيكات عند ذلك الحد، بل طالت مسيرته الأكاديمية التي تم التشكيك بها أيضاً، ووصل الأمر إلى حد الاستخفاف بالحائز على «منحة رودز» ،المرموقة التي أهلته للانضمام إلى أحد برامج جامعة «أكسفورد»، بأنه ليس طبيباً ولم يمارس مهنة الطب إطلاقاً!
كذلك كانت استطلاعات الرأي وتعليقات المراقبين السياسيين تتلاعب بالحقائق وتتحايل عليها، بوضع المرشح العربي في آخر القائمة إذ اتهموه بأنه مغامر وغير واقعي، ولكن الطبيب الشاب كان قادراً على تشخيص أمراضهم العنصرية، وأثبت أنهم على خطأ في كل مناظرة خاضها. لقد كان على الدوام بليغاً وجذاباً، ولم يتنصل من جذوره العربية وانتمائه الديني استرضاء للمصابين بالإسلاموفوبيا.
رغم كل ما فعلوه، فشلوا في إيقاف حملته في أنحاء ميشيغن، ونتائج 7 أغسطس كانت دليلاً ساطعاً على حيوية حملته فحصل على 340,560 صوتاً، أي حوالي 30 بالمئة من أصوات الناخبين الديمقراطيين على مستوى الولاية.
كل فقرة في ذلك العرض كانت مشوقة ومؤثرة: مرشح عربي مسلم في عصر ترامب!
لعل الإنجازات التي حققها السيد تتركز في قدرته على إقناع الأميركيين بأن المعتقد الديني للمسؤولين الرسميين والحكوميين لا يجب أن يكون موضع نقاش، فعلى حد تعبيره: المسألة لا تتعلق بالطريقة التي نصلي بها، بل بحقيقة أننا جميعاً نصلي من أجل الأشياء نفسها!
لقد كسر السيد، السقوف أمام العرب والمسلمين الأميركيين الراغبين بالترشح للمناصب العليا في ميشيغن، وساعد في رفع معنويات مجتمعه الذي تحاصره حملة منظمة بغيضة منذ عقود.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى ما قاله السيد من أنه يقف على أكتاف العديدين من أبناء المجتمع العربي الأميركي الذين عملوا بكل إخلاص وتفانٍ من أجل تشجيع العرب والمسلمين على الانخراط في الحياة السياسية، ترشيحاً وانتخاباً، في إشارة إلى مؤسسي وناشطي «اللجنة العربية الأميركية للعمل السياسي» (أيباك) التي تأسست في 1998.
لقد نجحت «أيباك» بإيصال الكثير من المرشحين العرب الأميركيين وأصدقائهم إلى مناصب حكومية ورسمية مرموقة، على مستوى المدن والمقاطعات، وفي مختلف المجالات السياسية والإدارية والقضائية والتنفيذية. وكانت باكورة نجاحها في دعم ترشيح المحامي العربي الأميركي عبد حمود، أحد مؤسسي «أيباك»، لرئاسة بلدية مدينة ديربورن في 2001 ضد رئيس البلدية حينها مايكل غايدو، صاحب شعار «التحدث عن مشكلة العرب».
لقد نجح حمود في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 من اجتياز الانتخابات التمهيدية لرئاسة البلدية، وفاز على منافسه حينها، رئيس شرطة ديربورن السابق رون ديزل، في اليوم ذاته الذي شُنت هجمات ١١ أيلول الإرهابية على برجي التجارة العالميين، لتؤجج موجة عداء غير مسبوقة ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة.
بكل تأكيد، لا بد من الشكر الجزيل لكل من السيد وطليب وسعد الذين أخذوا بأيدي أبناء مجتمعنا إلى مستوى أعلى وأفق أرحب، وجعلوا المجتمعات الأخرى أكثر قرباً منا.
إنها لحقيقة، أن المزيد من العرب والمسلمين الأميركيين دخلوا مجال الخدمة العامة هذه السنة، وقد تم ذلك بفضل جهودهم وقدراتهم المذهلة على إيصال رسائلنا إلى الجميع. وإنها لحقيقة أيضاً، لأول مرة منذ عقود، أن يصل التصويت في ديربورن إلى مستويات غير مسبوقة في الانتخابات التمهيدية، حيث تجاوز معدل الولاية، ففي حين بلغت نسبة الإقبال في ميشيغن حوالي ٢٩ بالمئة، تجاوزت النسبة الـ34 بالمئة في «عاصمة العرب الأميركيين».
لقد ذهبت 75 بالمئة من أصوات الديربورنيين لصالح المرشحين الديمقراطيين، و25 بالمئة لصالح المرشحين الجمهوريين، وهذه رسالة بالغة الدلالة لترامب وأبواقه في ولايتنا.
منذ بداية حملته وحتى نهايتها، أظهر عبدول السيد كامل الثقة والحماسة والإيمان بالحلم الأميركي وبالديمقراطية الأميركية، وبأن الحكومة من الشعب ويجب أن تكون لخدمة الشعب. لقد فشل السيد بالفوز في الانتخابات التمهيدية للحاكمية، ولكنه نجح بامتياز بالامتحان الأميركي!
مرة أخرى، نكرر في «صدى الوطن» شكرنا العميق للسيد وطليب وسعد و«أيباك» ولكل من ساهم في هذا الإنجاز التاريخي، محلياً ووطنياً.
ونحن مؤمنون أشد الإيمان بأن الأفضل لم يأتِ بعد!
ملاحظة: أبرز نتائج السباقات الانتخابية
منشورة في الصفحات ١٠-١٣ بالقسم الإنكليزي
Leave a Reply