مازال تشكيل الحكومة في لبنان من ضمن المهلة المقبولة «لبنانياً»، إذ بدأ الرئيس المكلّف سعد الحريري شهره الثالث، دون أن يتمكن من حلحلة صعوبات التأليف لأسباب داخلية تتعلق بالخلاف حول الأحجام والحقائب الوزارية، وأخرى خارجية لا يملك أمامها اللبنانيون سوى انتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية والدولية.
قاعدة الأقوى
بعد الانتخابات النيابية التي أظهرت أحجام الأحزاب والقوى السياسية من خلال النتائج التي أفرزها قانون النسبية، حصل «الثنائي الشيعي» المكوّن من حركة «أمل» و«حزب الله» على كل المقاعد الشيعية الـ٢٧ مع حليفين لهما هما اللواء جميل السيد ومصطفى الحسيني، فضمن الرئيس نبيه برّي أن يكون رئيساً لمجلس النواب لدورة سابعة بعد ربع قرن على ترؤسه له، لأنه يمثل مع «حزب الله» الغالبية الشيعية، وهو ما انطبق على تكليف الرئيس الحريري بتشكيل حكومته الثالثة، كونه الأقوى في طائفته، وفق توصيف رئيس «التيار الوطني الحر» للتمثيل السياسي الأنسب،، وهو ما اعتمد كمعيار لانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ليدخل لبنان نظام «الأقوياء في طوائفهم»، وهو ما يعكس «فدرالية طوائف مقنّعة»، أو ما يعرف بـ«الديمقراطية التوافقية» على أساس طائفي.
الحجم الوزاري
وإذا كانت قاعدة الأقوى في طوائفهم سهلة التطبيق في اختيار رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء، فإنها تصبح أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بالأحجام الوزارية لكل فريق سياسي ممثل في كتلة نيابية.
الرئيس برّي اقترح اعتماد وزير لكل كتلة من أربعة نواب، وهو ما اعتمده في السابق معياراً لدعوة المشاركين على طاولة الحوار، منذ العام 2006، وكان يعطى نواب من كتلة إلى أخرى ليصبح العدد أربعة، وهذا ما حصل مع كتلة «المردة» برئاسة النائب السابق سليمان فرنجية، بضم النائب إميل رحمة إليها، وكذلك مع النائب طلال إرسلان بضم النواب فادي الأعور وناجي غاريوس وبلال فرحات إليه في العام 2009 بعد الانتخابات النيابية، وهو ما حصل في هذه الدورة بضم ثلاثة نواب من «التيار الوطني الحر» إلى أرسلان، لتكوين كتلة سُميت «ضمانة الجبل» نتيجة تحالفهم الانتخابي في الشوف وعاليه.
ورغم أن الحريري بدأ يعمل على تشكيل حكومته وفق معيار النواب الأربعة، إلا أن المعطيات السياسية، لم تترك له أن يقدم صيغة حكومية تعتمد هذا المعيار، إذ طالبت «القوات اللبنانية» بخمسة وزراء استناداً إلى عدد الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات، بما يقربها من عدد المقاعد الوزارية التي يطلبها «التيار الوطني الحر»، ولكنها «تواضعت» بالموافقة على أربعة وزراء، إذا ما حصلت على حقيبة سيادية، وهو ما حرمت منه في الحكومة الحالية المستقيلة، بعدما طالب رئيس الجمهورية بحقيبة سيادية، وكانت وزارة الدفاع من حصته بتعيين يعقوب الصراف وزيراً، فيما نالت «القوات اللبنانية» منصب نائب رئيس الحكومة وهو منصب رمزي، إلى جانب حقيبة وزارة الصحة التي تبوأها غسان حاصباني إضافة إلى وزارتي الإعلام والشؤون الاجتماعية ووزارة دولة.
رفض احتكار التمثيل
وفي الوقت الذي كان الحريري يحاول حل العقد لتشكيل الحكومة، سواء لجهة التمثيل المسيحي بتحقيق التوازن، أو التمثيل الدرزي بإعطاء الحزب التقدمي الاشتراكي المقاعد الدرزية الثلاثة في حكومة من 30 وزيراً، فإن رئيس الجمهورية كان يرفض احتكار التمثيل داخل الطوائف، وهو ينطبق على الجميع، وأن يشارك الجميع بأحجامهم التي أفرزتها الانتخابات التي جرت على أساس النسبية التي من أهدافها تحقيق صحة التمثيل، فلا يعود يحصر بجهة سياسية معينة، بل إظهار التعدد السياسي.
ويرفض عون أن يكون التمثيل الدرزي حكراً على الحزب الاشتراكي دون غيره، ولو أنه حصل على ستة نواب دروز فإن النائب طلال إرسلان جمع نسبة من الأصوات تخوّله أن يسمى وزيراً هو شخصياً أو مَن يمثّله كـ«حزب ديمقراطي لبناني».
وبحسب مؤيدي عون فإن حصر التمثيل الدرزي بالحزب الاشتراكي، قد يعطل الحكومة تحت شعار «الميثاقية» إذا ما استقال منها الوزراء الدروز، والأمر نفسه ينطبق على طوائف أخرى، لكن عند السُّنة يكفي أن يستقيل رئيس الحكومة السّنّي حتى تعتبر الحكومة مستقيلة.
وهذا الخلاف حول التمثيل الطائفي، يؤخر تشكيل الحكومة التي باتت رهينة الشروط السياسية والطائفية الداخلية، و«الفيتوات» القائمة من هذا الطرف وذاك.
الإملاءات الخارجية
الأسباب الداخلية لتعثر ولادة الحكومة موجودة، لكن لا يخفى وجود ارتباطات وأسباب خارجية وراء تأخر تشكيلها، إذ يشترط الحريري وبرغبة سعودية أن تكون حصة «القوات اللبنانية» خمسة وزراء، أو أربعة مع حقيبة سيادية يتنازل عنها رئيس الجمهورية أو تياره السياسي، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا إذا حصلت متغيرات إقليمية ودولية لصالح الحريري وحلفائه، وهذا غير متوفر وفق المعطيات القائمة ونتائج الميدان سواء في سوريا حيث استعاد الجيش السوري معظم المحافظات، ويتحضر لخوض معركة تحرير إدلب، أو ما يجري في اليمن لصالح الحوثيين وحلفائهم، كما في العراق التي تحاول السعودية أن يكون لها فيه حضور سياسي بإقامة تحالفات مع أحزاب شيعية أو أخرى سنّيّة…
الميدان هو الذي يفرض الحلول السياسية، والذي يترجم في سوريا، وبدأت شظاياه السياسية تصل إلى لبنان الذي لا يمكن أن تكون فيه حكومة ترفض عودة العلاقة مع سوريا وإقامة حوار مع نظامها بما يتعلق بعودة النازحين القادمين منها إليها، أو في مرور الشاحنات اللبنانية عبر معبر نصيب عند الحدود السورية–الأردنية، وهو حاجة اقتصادية للبنان، حيث نصح الوفد الروسي الذي زاره قبل أسابيع المسؤولون اللبنانيون وعلى رأسهم الحريري، بأن يمد خطوط التواصل والتعاون مع القيادة السورية، لأنها ربحت الحرب، والرئيس السوري بشار الأسد باقٍ في السلطة، ولا يمكن رفع جدار سياسي بوجه الرئيس المنتصر في الحرب على الإرهاب.
حكومة غير منظورة
وفي ظل التعقيدات اللبنانية الداخلية بوجه تشكيل الحكومة، ومن خلفها المعوقات الخارجية، فإن الحريري لا يملك الحلول لاستعجال ولادة الحكومة غير المنظورة، ولكنه يستخدم الوقت كسلاح بوجه مَن يعتبرهم معرقلي تشكيل الحكومة، حيث يوجه أصابع الاتهام إلى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، بأنه لا يقدم تنازلات لصالح «القوات اللبنانية» التي هي شريكته في «تفاهم معراب» الذي أنتج انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، وتقول «القوات اللبنانية» إنه تضمن اتفاقاً ضمنياً على المناصفة في المقاعد الوزارية في الحكومة، كما هو الحال بين «الثنائي الشيعي» الذي على «الثنائي المسيحي» أن يستنسخه بحسب القواتيين. ولكن «التيار الوطني الحر»، بل رئيس الجمهورية نفسه لا يرغب في أن تحقق «القوات اللبنانية» مكاسب في عهده على حساب تياره السياسي وكتلته النيابية القوية، إذ يريد العونيون أن يحصلوا على 11 وزيراً بما يضمن الثلث الضامن في «حكومة العهد الأولى» لتبدأ معها عملية الإصلاح والتغيير المنشودة.
التسوية الرئاسية إلى أين؟
ينتقل السؤال في ظل تباطؤ تشكيل الحكومة، لأسباب داخلية وخارجية، إلى مصير التسوية الرئاسية، وهل بدأت تهتز؟
الرئيس الحريري يؤكد أنها مستمرة، والرئيس عون مصر عليها، غير أن قوى سياسية باتت تعتبرها في عداد الموتى، وأول مَن نعاها وليد جنبلاط عندما وصف العهد بالفاشل، بعد زيارته للسعودية قبل أشهر. وقد حمل معه رسالة من المملكة، بأن عهد عون لن يكون في حالة من الارتياح، ولن يتم تسهيل تحقيق إنجازات يتوخاها، طالما لم يفك ارتباطه بـ«حزب الله» الذي يقاتل في اليمن ضد التحالف الذي تقوده السعودية، وهي الرسالة نفسها التي تلقاها الحريري في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، عندما استدعي إلى الرياض وقدّم استقالته منها، وكاد أن يبقى رهينة فيها، لولا تدخل فرنسي سمح له بمغادرة المملكة، التي لا تزال ترى في التسوية الرئاسية التي أقامها الحريري مع عون، مصلحة لخصومها دون أن تستفيد منها السعودية بشيء.
Leave a Reply