فضحت باخرة الكهرباء التركية هشاشة الوضع اللبناني الذي كاد يشعله أخيراً «مسّ كهربائي»، أصاب الجسم المنخور طائفياً ومذهبياً للدولة والمجتمع، ووصلت ذبذباته السلبية إلى سائر الملفات المعيشية والاجتماعية التي تعني كل اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم.
بدلاً من أن تشكل الباخرة فرصة لزيادة مساحة الضوء، إذا بها تهدد بتوسيع رقعة العتمة السياسية، تحت وطأة السجالات الحادة التي اندلعت بين عدد من الأطراف حول اسمها والمنطقة التي يجب أن تستفيد منها.
وبرغم أن الباخرة ستمنح الطاقة المجانية لمدة ثلاثة أشهر، إلا أن اللبنانيين شعروا بأنهم دفعوا ثمنها من أعصابهم ومن نسيجهم الداخلي الحساس، حتى كاد البعض يفضل استمرار التقنين القاسي على استجرار الكهرباء إذا كانت الكلفة في المقابل هي تغذية النعرات الطائفية والمذهبية بمزيد من «الميغاوات».
«عائشة» و«إسراء»
ولعل الدلالة الأكبر على هزالة الواقع السائد تكمن في ما حصل من أخذ ورد حول اسم الباخرة التي وصلت إلى الساحل اللبناني باسم «عائشة»، قبل أن يتخذ وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال سيزار أبي خليل قراراً بتغييره إلى «إسراء»، مراعاة للحساسيات المذهبية والسياسية كما أوحى، خصوصاً أن الباخرة كانت سترسو في منطقة الزهراني لمد الجنوب بالطاقة، قبل أن يتقرر تبديل وجهتها في اتجاه كسروان شرقي بيروت، بعدما رفضت حركة «أمل» مبدأ الاستعانة بالباخرة.
وقد ولّد قرار الوزير بتغيير الاسم موجة من ردود الفعل المتفاوتة، إذ وجد فيه البعض مناسبة للسخرية وإطلاق النكات وصولاً إلى اقتراح منح الباخرة اسماً مسيحياً بعد رسوها على شاطئ كسروان المسيحية، فيما اعتبر آخرون أن أبا خليل تعاطى بخبث متعمد مع المسألة وأنه تعمد العزف على وتر التسمية لإيجاد شرخ بين السنة والشيعة، من خلال التلميح إلى أن استبدال «عائشة» بـ«إسراء» تم بناء على طلب شيعي تحديداً.
وقد طالب عدد من السياسيين بمحاسبة أبي خليل على ما صدر عنه، ومنهم النائب فيصل كرامي الذي اتهمه بأنه هدد السلم الأهلي، لافتاً إلى أن طريقة تعامل الوزير مع اسم الباخرة تسببت في إحداث حالة من التشنج والغليان بين القواعد الشعبية في طرابلس.
مشكلة المنطقة
الباخرة التركية التي كان يفترض بها أن تحمل حلا أفضت إلى مشكلة أخرى تتعلق بالمنطقة التي ستستفيد من طاقتها الكهربائية.
بداية، رست الباخرة في الزهراني، إلا أن اعتراض حركة «أمل» عليها «جرفها» إلى كسروان برعاية «التيار الوطني الحر» والوزير أبي خليل، ما أحدث نقمة عارمة في عاصمة الشمال التي يعتبر أهلها أنهم الأحق في الحصول على خدمات الباخرة باعتبار أن مدينتهم تشكو من التقنين القاسي والمزمن في حين أن عدد ساعات التغذية المخصصة لكسروان أكبر من المخصصة لطرابلس، وبالتالي فإنه كان يجب منح مدينتهم الأولوية الكهربائية، لاسيما وأن «عاصمة لبنان الثانية» تعاني من حرمان مزمن وإهمال حاد في المجالات الخدماتية كافة.
بين الحزب والحركة
وإلى جانب الشرخين المذهبي والمناطقي الذي ترتب على طريقة إدارة ملف الباخرة، برز تباين في الصف الشيعي نفسه بين حركة «أمل» و«حزب الله» حيال كيفية مقاربة هذا الملف، إذ أبدى «الحزب» حماسة للاستعانة بالطاقة المستوردة والمجانية في مرحلة انتقالية من أجل تخفيف معدلات تقنين الكهرباء الذي ينهك الجنوب عموماً ومنطقة صور–الزهراني خصوصاً إلى حين إنجاز حلّ جذري للأزمة عبر المعامل، بينما رفضت «الحركة» بشدة هذا الخيار منبهة إلى أنه يرتب تلوثاً بيئياً في مقابل ساعتي تغذية فقط، ومشددة على أن الأولوية يجب أن تكون للمعالجة الجذرية من خلال إنجاز معامل الإنتاج الثابتة، مع الإشارة إلى أن «أمل» تعارض مبدئياً سياسة استحضار البواخر وترتاب من وجود صفقات معينة خلفها (توجد باخرتان قيد العمل منذ فترة، إضافة إلى تلك الجديدة).
وقد انعكس التمايز بين الحزب والحركة في مقاربة مسألة الباخرة الجديدة تشنجاً بين بعض مناصري الجانبين على مواقع التواصل الاجتماعي، ما استدعى عقد اجتماع طارئ بين عدد من قياديي الطرفين لاحتواء الموقف والتشديد على صلابة تحالفهما، لاسيما أنهما يعلمان بأن هناك مصطادين في الماء العكر يسعون إلى انتهاز كل فرصة ممكنة لزرع بذور الفتنة في الساحة الشيعية، وقد ظهرت بصماتهم في أكثر من مناسبة سابقاً.
Leave a Reply