بلغة الأرقام وبجميع المعايير، شكلت الانتخابات التمهيدية التي شهدتها ولاية ميشيغن الثلاثاء الماضي، وخصوصاً في الشق الديمقراطي منها، حدثاً سياسياً وكيانياً وانتخابياً مميزاً للعرب الأميركيين في الولاية التي يتباهون بالتلازم بين اسمها وبين هويتهم الجديدة كأكبر تجمع سكاني عربي خارج الشرق الأوسط.
وما يجعل هذا الحدث أكثر وقعاً، حقيقة أننا نعيش في عهد دونالد ترامب، أكثر رئيس عنصري، شعبوي، وعدائي في تاريخ أميركا، وأنه تحقق في ولاية أعطت اصواتها لترامب في انتخابات الرئاسة الأخيرة.
فوز الناشطة العربية الأميركية الرائدة رشيدة طليب بتزكية الحزب الديمقراطي لوراثة قامة تشريعية تاريخية مثل جون كونيرز في الكونغرس، عن دائرة تغلب عليها هوية اثنية واضحة قدمت مرشحين مرموقين لم يحالفهم الحظ، كما احتفاظ النائب عبدالله حمود بثقة ناخبيه لدورة جديدة في مجلس نواب ميشيغن، وفوز الناشط العربي الأميركي حسان (سام) بيضون بنجاح مضمون كمفوض في مقاطعة وين، كبرى مقاطعات ميشيغن، لم يختزل كل المشهد الإيجابي الذي عاشه العرب الأميركيون مساء الثلاثاء الماضي.
حصول المرشح العربي الأميركي لحاكمية الولاية الدكتور عبدول السيد على أكثر من 340 ألف صوت (30 بالمئة من مجموع الأصوات) وحلوله ثانياً في الانتخابات ليس بالأمر العادي. فالسيد أول عربي أميركي يترشح لمنصب على مستوى الولاية ككل– إذا استثنينا السيناتور العربي الأميركي سبنسر ابراهام الذي مثل الولاية في مجلس الشيوخ (1994–2000)، باعتبار أن تجربته السياسية والحزبية مختلفة تماماً وطغت عليها الهوية الأميركية البحتة، على الرغم من مفاخرة ابراهام بأصله العربي وتواصله الفعّال مع العرب الأميركيين ومؤسساتهم، في مرحلة الصعود.
هذه المرة، كانت الهوية العربية الأميركية للسيد معلنة وواضحة، وكانت قضايا العرب الأميركيين التي أثقلها عهد ترامب، في طليعة برنامجه الانتخابي.
لقد وضع السيد، العرب الأميركيين في قلب المعادلة الانتخابية في ميشيغن، وهذه مسألة بغاية الأهمية، لطالما عملت الجالية على ترسيخها من خلال أنشطتها السياسية، وفي مقدمتها جهود «اللجنة العربية الأميركية للعمل السياسي» (أيباك) التي عملت منذ أواخر التسعينات على تفعيل وترسيخ الصوت العربي في ديربورن وعموم ولاية ميشيغن.
فكما كسرت سوزان سرعيني في الثمانينات، وأليكس الشامي في التسعينات وعبد حمود في مطلع الألفية الحالية، الحاجز الزجاجي للانتخابات على مستوى مدينة ديربورن، كسرت نتائج الثلاثاء الماضي الحاجز الانتخابي على مستوى ولاية ميشيغن، ليصبح الترشح والفوز أمراً وارداً بالنسبة إلى أي شاب أو شابة من العرب الأميركيين. وكما نجح القاضي سالم سلامة والقاضي ديفيد طرفة في تقديم نموذج إيجابي عن العربي الأميركي في موقع المسؤولية، وكذلك نجحت رئيسة المجلس البلدي لديربورن سوزان دباجة في تكريس التفوق الاقتراعي للعرب الأميركيين في المدينة لتشغل منصبها مرتين على التوالي، هكذا فعل د. السيد على المستوى الأشمل للولاية، وهكذا أيضاً فعلت المرشحة العربية الأميركية فيروز سعد التي حازت على أكثر من 17 ألف صوت (20 بالمئة من الأصوات) في دائرة ليس فيها وجود ديموغرافي عربي أميركي ملحوظ.
لكن العلامة الفارقة في هذه الانتخابات، على الرغم من وجود بعض الثغرات الناتجة في معظمها عن الحماس (كربط التصويت بالواجب الشرعي) أو عن قلة الخبرة (كالربط بين التصويت والانتماءات العائلية والقروية والقطرية)، هي المهنية العالية والعمل المدروس في الحملات الانتخابية، وهو ما كان واضحاً بجلاء في الحملة الأولى للنائب عبدالله حمود عام ٢٠١٦، الذي تلافى ما كانت الحملات الانتخابية للعرب الأميركيين تشهده من مشاحنات فارغة وتعبئة انتخابية تنتمي إلى الوطن الأم من حيث التركيز على العصب العائلي أو الديني أو المذهبي أو القُطري والتوجه إلى المجتمع ككل بكل مكوناته. ولعل الحملة التي خاضها المرشح حسان بيضون نموذج لما ينبغي للحملات أن تكون عليه، سواء من حيث التواصل مع الناس أو توزيع اللافتات أو المشاركة في أنشطة المؤسسات المحلية، والأهم دعم وتشجيع المرشحين الآخرين، والنتيجة التي حققها (أكثر من 60 بالمئة من الأصوات) خير دليل على نجاعة هذا الأسلوب.
لن تقف مفاعيل هذا الموسم الانتخابي على ما جرى الثلاثاء، ولن تقف بعد الانتخابات العامة في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فهذه الانتخابات خلقت وقائع جديدة وفتحت آفاقاً أوسع للعرب الأميركيين للمرة الأولى منذ الانحسار المرير الذي بدأ بعد الهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. بعيداً عن التلقين والخطابية والإملاء، يجب أن تمتد الاستفادة من الحالة التي عاشها العرب الأميركيون في الأشهر القليلة الماضية إلى «المناطق المريحة» أو المناطق التي شعرنا بالراحة فيها طوال عقد ونصف.
لم يعد جائزاً أن يكون الاحتماء بالمؤسسة الدينية مسلمة كانت أو مسيحية، السياسة الوحيدة للعرب الأميركيين.
لم يعد جائزاً ترك العرب الأميركيين وخصوصاً الوافدين حديثاً طعماً لشعائر وشعارات ومشاعر دينية ومذهبية أكلت الأخضر واليابس في الوطن الأم وتحاول أن تتمدد إلى وطننا الجديد.
صحيح أن وجود دونالد ترامب على رأس السلطة في أميركا يُخرج إلى سطح المجتمع الأميركي أسوأ ما فيه، من تصاعد الكراهية والانتهاكات العنصرية والاثنية التي لا تقتصر على العرب والمسلمين الأميركيين وحدهم، الا أن ذلك يجب أن يكون حافزاً إضافياً للتفاعل مع محيطنا والخروج من شرانق التقوقع وكهوف البدائية السياسية ومواجهة مستقبلنا بما يقتضيه.
المسألة في أميركا –على الأقل من الناحية العملية– سهلة، لأن المزيد من المشاركة السياسية والتفاعل يعني المزيد من الحضور والنفوذ، ولمن كان يرسمل حتى الآن على عناوين الكراهية والعداء لتبرير إبقاء الجالية في قوالب معروفة ومعتمدة في الوطن الأم، آن الأوان أن يصحو من ردة إعادتنا عقوداً إلى الخلف.. والمفارقة الغريبة أنها ترتكب باسم الحرية في هذا البلد.
بكثير من الصراحة، من يريد أن يقيم زياحات علنية أو يمثل العاشر أو الاربعينية ويمارس هوايات التمثيل بالجلد والسبي فليفعل ذلك في مكان مغلق. نحن لسنا أكثر إيماناً من محيطنا الأميركي. إذ نجد على كل تقاطع هناك كنيسة، وبدل مذهبين هناك عشرات المذاهب المسيحية فضلاً عن ديانات المواطنين الآخرين فهل رأى أحد رجلاً يحمل صليباً على طريق عام يوم الجلجلة؟ هل رأى أحد من يضرم النار ويسير على الجمر لإعلان الولاء لمعبوده؟ الجواب لا.
الحريص على العرب الأميركيين، والصادق في دفاعه عن إيمانه، عليه اولاً أن يعرف أين هو. نحن في أميركا. في أميركا التي لا يمكن لرئيس منتخب أن يفعل ما يشاء، فدون رغباته مؤسسات تشريعية وقضائية. وإن لم ندرك ذلك، فإننا لن نعرف من العرب الأميركيين سوى الذين تسمم عقولهم الأفكار الشاذة ليقوموا بجرائم منكرة وهم واهمون أنهم يفعلون خيراً.
جميل أن تكون في حياتنا الراهنة محطة إيجابية يمكننا الإشارة إليها لنقول هذا ما ينبغي التركيز عليه.
الانتخابات تجري كل سنة، بدرجات متفاوتة، وفي كل سنة، لنا فرصة جديدة أن نثبت حضورنا ونفوذنا، لأننا وبصدق خلال ما يزيد على 17 سنة لم نقدم سوى ما نستورده من مشاكل الوطن الأم، فلم نتحمس إلا لحروب أهلية مصغرة تتراوح بين صراع نفوذ بين المؤسسات، وصراعات دينية مفتوحة على بناء مسجد أو فندق!
Leave a Reply