يوماً بعد يوم، يزداد المشهد الدولي «سوريالية» وتعقيداً، طارحاً تساؤلات حول مستقبل التحالفات والمحاور التي استقرّ عليها العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، ويفتح الباب أمام تكهّنات متعدّدة الاتجاهات حول التحوّلات المرتقبة على المسرح الجيوسياسي الذي بات الكل يجمع على أن حاضره بات مفصلياً.
أحدث فصول تلك «السوريالية»، التطوّرات المتسارعة في تدهور العلاقات الأميركية–التركية، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المستوردين من تركيا، متسبباً بأزمة مالية خطيرة في الداخل التركي، سرعان ما تسببت بانهيار للعملة التركية التي سجلت هبوطاً حاداً بنسبة 19 بالمئة خلال يوم واحد أمام الدولار.
كل ذلك جعل رجب طيب أردوغان أمام واقع خطير، دفعه إلى خط المواجهة المباشرة مع الحليف الأميركي، ليعلن «النضال الوطني» بكل الأشكال الممكنة، لمنع الارتدادات الخطيرة على مشروعه السياسي المحاصر بشتّى الضغوط، الداخلية والخارجية، التي حطّمت آمالاً كبيرة عقدها «السلطان الجديد» قبل سبع سنوات، يوم نصّب نفسه «المرشد الأعلى» لثورات «الربيع العربي» التي انقلبت وبالاً على العرب… وتركيا على حدّ سواء.
مشهد سوريالي
«سوريالية» المشهد التركي، في تلك المواجهة الجديدة، لم تخل من «كوميديا سوداء»، تبدّت حين لوّح أردوغان بمقاطعة المنتجات الألكترونية الأميركية، رداً على عقوبات ترامب، بما يشمل، منطقياً، الهواتف الذكية من ماركة «آبل»، وهي نفسها التي «أنقذته» ليلة الانقلاب العسكري الفاشل، حين لم تكن أمامه من وسيلة لإجهاض الانقلاب والتواصل مع مناصريه، سوى إحدى تطبيقاتها الشهيرة: «فايستايم»!
وأما بعيداً عن «الكوميديا السوداء»، فإنّ «سوريالية» المشهد الدولي تتبدّى على نحو أكثر جدّية وخطورة في البيت الأبيض، الذي يبدو أن رئيسه–التاجر قد اختار المضي قدماً في تجربة سلاح العقوبات التجارية في المواجهة الجيوسياسية العالمية الهادفة إلى استعادة «الأحادية»، بعدما فشل أسلافه في تحقيق الاستراتيجية الأميركية الدائمة، بالأسلحة التقليدية، والغزوات، والحروب، والمؤامرات والانقلابات.
لكن من الواضح أيضاً أن ترامب لا يميّز بين حليف وعدو، في إشهار «السلاح الجديد»، حتى أن مجرّد «تغريدة» عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، كافية لإحداث هزّات عنيفة في بورصات المال والأسهم!
يمكن الافتراض أن توجيه سلاح العقوبات التجارية إلى تركيا كان متوقعاً، أو على الأقل غير مفاجئ، فمنذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، لم يميّز بين «عدو» –مثل روسيا أو إيران أو الصين أو كوريا الشمالية– وبين «صديق» مثل الاتحاد الأوروبي وكندا… أو تركيا، العضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي.
نسف العولمة
بالرغم من النجاعة الآنية للسياسة الترامبية التي باتت «كابوساً» في البورصات العالمية، إلا أن تعقيدات المشهد العالمي، تثير تساؤلات كبيرة، ما زالت الاجابات عليها محاطة بالكثير من الغيوم، بشأن النتائج المترتبة على المغامرات الأميركية التي تبدو على طرف نقيض مع المنظومة العالمية التي نجحت الولايات المتحدة في فرضها بشكل كبير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي (العولمة).
وإذا كانت العولمة قد جعلت التداخل بين الاقتصاديات العالمية أمراً متحرّراً من كل الحواجز التاريخية، تحت المظلة الأميركية التي كرّسها نظام «بريتون وودز» بعد الحرب العالمية الثانية، والذي بات الاقتصاد العالمي من خلاله مرتبطاً بالدولار، فإن تلك المنظومة نفسها، تبدو قادرة لو توافرات لها بعض عوامل الدفع، إلى سلاح خطير يمكن أن يرتد على أميركا في أي وقت.
تحالف قديم
ولعلّ الأزمة القائمة اليوم بين تركيا والولايات المتحدة، تأتي لتطرح التساؤلات نفسها التي يمكن أن تطرحها الأزمات الأخرى التي يثيرها ترامب في مختلف الاتجاهات، وإن كانت الحالة التركية تنطوي على رمزية كبرى، يمكن إدراجها ضمن سياقين، الأول تاريخي، كانت فيه الجمهورية التركية الركيزة الأساسية للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط، والثاني آني، يجعل معظم المحللين الاستراتيجيين ينظرون إلى الخيارات الكبرى التي يمكن أن تسلكها أنقرة، أمراً حاسماً في تغيير خريطة الصراع العالمي، لا سيما في ظل عودة روسيا إلى المشهد الدولي بقوّة.
وللتوضيح أكثر، فإنّ نظرة بانورامية للمشهد الدولي، تبدو كافية للقول إن الاقتصاد العالمي ينتقل يوماً بعد يوم من الغرب إلى الشرق، لا سيما مع وجود ركائز قوية لهذا التحوّل –روسيا، الصين، الهند– وهو ما يترك بصمات قوية على السياسة الدولية، وفقاً للمقولة الكلاسيكية بأن «السياسة اقتصاد مكثّف». وعلى هذا الأساس، بدأت تبرز تكتلات اقتصادية إقليمية ودولية «بديلة» عن العولمة بطابعها الأميركي، أهمها مجموعتا «بريكس» و«شنغهاي»، ناهيك عن وجود طموحات أبعد مدى، تسعى روسيا والصين بشكل خاص إلى إرسائها، تحت مسميات عدّة، أبرزها «المشروع الأوراسي» و«طريق الحرير».
خيارات تركيا
في مواجهة أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع الولايات المتحدة، التي أنهكتها الأزمة المالية والتراجع الحاد والسريع لعملتها، تتطلع تركيا إلى «حلفاء جدد»، كما حذر أردوغان، يوم الأحد 12 أغسطس.
وفقاً للرئيس التركي، فإن هذا رد على «المؤامرة السياسية» التي دبرتها واشنطن.
في المقابل، تتوعد إدارة ترامب بمزيد من العقوبات القاسية، إذا لم تفرج عن القس الأميركي المحتجز لديها أندرو برانسون، الذي تحول إلى رمز للأزمة الأميركية–التركية المتفاقمة منذ انقلاب صيف ٢٠١٥ الفاشل.
وثمة إجماع بين المحللين على أن تركيا تبقى مفتاحاً رئيساً للتحوّلات الاستراتيجية المرتقبة، أو المأمولة، خصوصاً، على نحو يجعلها نقطة جذب لكل القوى المتصارعة على الحلبة الدولية، من الصين وروسيا، مروراً بالاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى الولايات المتحدة المتهمة بتدبير الانقلاب التركي الفاشل على أردوغان تحت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.
كل ذلك، يبدو كافياً لبروز تحذيرات، حتى في الداخل الأميركي من أن الأزمة الحالية قد تدفع تركيا، وهي عضو في حلف الناتو منذ عام 1952، إلى الاعتماد أكثر على روسيا والصين، كقوتين دوليتين عظميين، وعلى قوى إقليمية، بات الاستهداف الأميركي هو القاسم المشترك بينها لتجاوز أية تناقضات بينها، لاسيما إيران، وهو أمر بدأ رجب أردوغان يدرك أهميته، وقد عبّر عن ذلك بالفعل قبل أيام حين قال إن «بلادنا دفعت أثماناً باهظة بصفتها عضواً في «الناتو».
وعلى هذا الأساس أيضاً، كان ملفتاً أن الأزمة الحالية بين الولايات المتحدة وتركيا قد دفعت الأخيرة أكثر إلى الاقتراب من روسيا، وهو ما تبدّى على سبيل المثال في ما تسرّب من المكالمة الهاتفية الأخيرة بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وما تضمنته من «رغبة مشتركة في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، فضلاً عن الحديث بشأن بدء مشاريع مشتركة، خاصة في قطاع الطاقة».
لا شك أن الأزمة التركية، قد تترك تداعيات كبيرة على مجمل التوازنات في الشرق الأوسط، خاصة في حال توثيق التقارب مع إيران وروسيا، كما أن الأحداث قد تشكل خرقاً في الجدار بالنسبة إلى أطراف أخرى، مثل قطر، التي سارعت إلى عرض خدماتها على الحليف التركي، في مسعى جديد لاستعادة بعض من مكانتها المتهالكة بعد فشل مشروع «الربيع العربي»، والعزلة الخليجية المفروضة عليها.
الحل في سوريا
وإذا كان من اختبار أساسي لكل التحوّلات القادمة، فسيكون الأمر في الملف الأكثر حساسية، أي الملف السوري، علماً بأنّ ثمة مؤشرات بدأت تظهر في هذا السياق، أبرزها حديث وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، خلال لقاء مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، عن الأمل في التوصل إلى حل لقضية إدلب، التي باتت البؤرة العسكرية الأخيرة في الحرب السورية. ومعلوم هنا ان أنقرة التي تشكل حامي المعارضة ولها تأثير بارز في منطقة إدلب من خلال الجماعات المتحالفة المسلحة، لا تريد حدوث هجوم كبير من الجيش السوري. مع الإشارة إلى أنه في منتصف يوليو الماضي، وفي اتصال هاتفي مع نظيره الروسي، هدد أردوغان بالانسحاب من عملية أستانا حال الهجوم على إدلب.
وإذا كان أردوغان قد حاول خلال الفترة الماضية إبداء التشدد في هذا الملف، فالأمر مختلف الآن، بعد الأزمة مع الولايات المتحدة، فهو لم يعد أمامه من حليف محتمل سوى روسيا، التي يراهن عليها في احتواء آثار العقوبات الأميركية من جهة، وللحفاظ على نطاق نفوذه في شمال سوريا. وطالما أن تركيا لم تعد تعتمد على الدعم الأميركي، فقد يكون هذا، الوقت المناسب لروسيا لحسم الأمر في إدلب، وبالتالي فرض أفضل الشروط، في التسوية السياسية، على أعتاب القمة الروسية–التركية–الأوروبية المرتقبة في اسطنبول في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل، والتي قد تخرج بحلول عملية للأزمة السورية، خصوصاً في ظل تلميحات –وإن كانت خجولة– بأن روسيا ستكون «سخية» في فتحها الباب أمام الأتراك والأوروبيين للاستفادة من مشاريع إعادة إعمار سوريا، وهذا تماماً ما يحتاجون إليه في ظل الضغوط الأميركية الاقتصادية المتصاعدة على كل الاتجاهات.
Leave a Reply