قبل خمسين سنة من الآن كنت أتأهب للانخراط في غمار الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية. أذكر أن صديقي ومعلمي إبراهيم أبو لغد، قال لي آنذاك بعض الكلمات الحكيمة التي لم أنسَها قط، فقد ظلت محفورة في ذاكرتي. رغم أن إبراهيم كان يقرأ صحيفة «نيويورك تايمز» كل يوم –كان يسميها مخدره اليومي– فقد نصحني بألا أنجر وراء الأحداث بالطريقة التي تغطيها الصحافة. لقد نصحني بالمقابل أن أركز على الرؤية على المدى البعيد –أي الأحداث العميقة التي تظهر الوجهة التي تسير باتجاهها الأحداث.
كان إبراهيم يشير على وجه التحديد إلى التغطية الصحفية للأحداث التي كانت تجري في منطقة الشرق الأوسط غير أنني تذكرت كلماته الحكيمة هذا الأسبوع وأنا أتابع التحاليل التي تناولت الانتخابات التمهيدية ليوم الثلاثاء الماضي. فقد اعتبرت الصحف الأميركية في معرض تحليلها أن الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي قد «اصطدم بالجدار»، كما أنه «تكبد سلسلة من الهزائم والانتكاسات» أو أنه بكل بساطة قد «تكبد الهزيمة».
لقد جاءت هذه التغطيات الصحفية مناقضة تماماً للتقييم الذي جرى قبل أكثر من شهر عقب الانتصار المدوي الذي حققته ألكسندريا أوكازيو كورتيز وبن جيلوس اللذان تمكنا من إلحاق الهزيمة باثنين من المرشحين المفضلين من مؤسسة الحزب الديمقراطي. لقد قيل لنا آنذاك إن ما حدث ينم عن «صعود قوي» غير أن نفس الوسائل الإعلامية كانت تقول لنا قبل ذلك بأسبوعين إن الحركة التقدمية في الولايات المتحدة الأميركية قد دخلت غرفة الإنعاش.
يمكن أن نعتبر أن هذا التخبط في وصف وتغطية مجريات انتخابات 2018 إنما هو ناتج عن أخطار في التقييم والتقديم والأحكام. أنا أعتبر أن هذا التخبط يعكس معضلة أكثر عمقاً. إليكم بعض التفسيرات لهذا التخبط:
بداية لا بد من أن نعتبر أن الحماسة تتغلب على رجاحة العقل. رغم أن الصحافة الأميركية تزعم أنها محايدة ومتزنة فإنني أعتقد أن كبرى وسائل الإعلام الأميركية المكتوبة منها والإلكترونية تفتقد في أحيان كثيرة إلى التوازن والموضوعية أو حتى العمق في الطرح والتحليل.
لا هم لكبرى وسائل الإعلام الأميركي إلا زيادة نسب المشاهدة وبيع منتجاتها ومنتجات المعلنين الذي يتعاملون معها، سواء تعلق الأمر بـ«نيويورك تايمز» أو «وول ستريت جورنال» أو الـ«سي أن أن» أو «أم أس أن بي سي» أو «فوكس نيوز»… ذلك هو عملها الحقيقي. يبدو أن هذه الوسائل الإعلامية تدرك أن التغطيات الإخبارية المتوازنة والتحاليل الرصينة مملة وعديمة الفائدة السوقية، لذلك فقد عمد أولئك الذين يسوقون الأخبار إلى أسلوب الإثارة من أجل زيادة نسب المشاهدة التي تحصل عليها.
ينطبق هذا الأمر خاصة على التلفزيون. ففي الكثير من الأخبار تطالعنا على الشاشة «الأخبار العاجلة»، التي يتم بثها بصفة دورية معلنة عن سبق خبري، غير أننا ندرك أن الخبر المنتظر لا يملك من خصائص «العاجل» أو حتى «الخبر» أي شيء. يمكننا أن نختلف حول ما إذا كانت تغريدة غريبة تصدر عن دونالد ترامب تستحق أن تقدم كخبر عاجل في الساعة التاسعة صباحاً لكن من العبث تقديم نفس التغريدة كخبر عاجل في الساعة الرابعة مساء.
هناك أيضاً مشكلة «التفكير الجماعي» أو «صحافة القطيع». ذات مرة قال السناتور المتوفى يوجين ماكارثي، مرشح الانتخابات الرئاسية سنة 1968، مقولته الشهيرة بتشبيه الإعلام بالغربان الجاثمة معاً على سلك كهربائي: «عندما يسقط أحد الغربان فإن كل الغربان تسقط وعندما يرتفع أحدها فإن جميع الغربان ترتفع وتحلق».
نتذكر جميعا ًالخطاب الذي ألقاه الرئيس الأسبق جورج بوش وأعلن فيه «اكتمال المهمة، ونهاية الحرب الكارثية والمشؤومة في العراق. فقد راح العديد من الليبراليين والمحافظين آنذاك يسهبون في الثناء والإشادة بأدائه، واعتبر أن ذلك الخطاب عرضاً رئاسياً، ينم عن «القيادة القوية».
عندما اتضح أن ذلك الخطاب كان سابقاً لأوانه –إن لم نستخدم كلمة أخرى غير لائقة– عاد نفس هؤلاء الليبراليين والمحافظين وتحولوا إلى منتقدين من دون أن يعترفوا بالخطأ الذي ارتكبوه أو يعتذروا عن مواقفهم وآرائهم السابقة المشينة. يبدو أن هؤلاء يعتبرون أن كونهم من النقاد الإعلاميين يجنبهم مؤونة الاعتذار عند الخطأ.
إن معضلة «إعلام القطيع» قد تفاقمت أكثر في ظل نزعة المحطات الإخبارية التي أصبحت تستضيف الصحفيين الذين أصبحوا يعملون كمعلقين على الأحداث. ليلة بعد أخرى نشاهد المحطات التلفزيونية الإخبارية وهي تستضيف الصحفيين الذين يتولون محاورة صحفيين آخرين –من دون أية إضافة من مصدر خارجي مستقل من شأنه أن يحقق التوازن في مثل هذه الحوارات. في هذه الظروف فإنه من الحكمة موافقة زميل من نفس المهنة فيما يذهب إليه من رأي وتفادي الدخول معه في خلافات في الرأي. هنا أتذكر جيداً مقولة السناتور الأميركي الراحل: «عندما يقع أحدهم فإنهم يقعون جميعاً».
يجب أن نشير أيضاً إلى مسألة الكسل والسطحية التي تؤدي إلى إطلاق الأحكام الخاطئة واللجوء إلى الإثارة على حساب المحتوى وعمق التحليل. يتجلى هذا الأمر على وجه الخصوص في التغطيات الإعلامية المتعلقة باستطلاعات الرأي السياسية – مثل استطلاعات الانتخابات.
على سبيل المثل، تبث إحدى المحطات الإخبارية التلفزيونية «خبراً عاجلاً» وتقول فيه إن استطلاع جديد للرأي يظهر أن شعبية الرئيس دونالد ترامب قد لا مست الحضيض. إن مناقشة هذه المسألة سيستمر لساعات طويلة دون أن يتساءل أحدهم عما إذا كانت نتائج هذا الاستطلاع تعكس المزاج العام فعلاً.
حذر لاري ساباتو، من «جامعة فرجينيا»، من سوء استخدام وسائل الإعلام للنتائج المترتبة عن استطلاعات الرأي السياسية. حذر هذا الأكاديمي المختص أيضا من أنه لا يمكن مقارنة نتائج استطلاعين للرأي ما لم تكن المنهجية المستخدمة نفسها.
حذر هذا الأكاديمي أيضاً من الإدعاء بالنتائج التي يفرزها استطلاع جديد للرأي تعكس تحولاً في المواقف والاتجاهات إذا كان الفرق ما بين استطلاعين للرأي يقع في إطار هامش الخطأ.
بعبارة أخرى، لا يمكن مقارنة نتائج استطلاع للرأي عبر الهاتف حول «الناخبين المحتملين» بنتائج استطلاع هاتفي مع الأشخاص البالغين. لا يمكن بأي حال من الأحوال الاعتماد على مثل هذه النتائج كي نخلص إلى القول إن هناك تحولا في مواقف واتجاهات الرأي العام الانتخابي وخاصة عندما يكون الفرق ما بين نتيجة الاستطلاعين في حدود 3% وعندما يكون هامش الخطأ في حدود 3.5 بالمئة. بطبيعة الحال مثل هذا الكلام لا يلقى آذانا صاغية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بنتائج مقارنات خاطئة تستخدم نتائجها في نشر «الأخبار العاجلة» من أجل إحداث الإثارة الإعلامية وزيادة نسب المشاهدة.
ختاماً، سواء انتصر التقدميون في هذه الانتخابات أو انهزموا فإنهم نجحوا في وضع بصمتهم على هذه الانتخابات التمهيدية الديمقراطية. فالقضايا التي كانت تعتبر قبل عقد من الزمن «راديكالية جداً» أصبحت اليوم مدرجة في برامج عديد من المرشحين للانتخابات، بما فيهم المرشحين المدعومين من مؤسسة الحزب الديمقراطي نفسه. أما المرشحون التقدميون الحقيقيون فقد نجحوا في إدخال ديناميكية جديدة إلى الساحة السياسية والانتخابية الأميركية.
قبل ثلاثين سنة من الآن كان الديمقراطيون ينأون بأنفسهم عن «الليبراليين» غير أن استطلاعات الرأي تظهر اليوم أن أكثر السياسيين شعبية من بين الديمقراطيين هو سناتور اشتراكي. فالقضايا المهمة مثل الرعاية الصحية للجميع، والاستثمار في الطاقة الخضراء، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً في الساعة، والتعليم الجامعي المجاني للجميع، أصبحت اليوم تدرج في الحملات السياسية بكل قوة ووضوح.
قد لا يكون هذا الأمر في مثل إثارة «التغطيات الإعلامية» التي تنذر بسقوط السماء فوق رؤوسنا غير أنه قريب من الحقيقة.. أعني حقيقة ما يحدث في هذه الانتخابات التمهيدية الديمقراطية.
Leave a Reply