عادة، تُفتح معركة رئاسة الجمهورية في لبنان بعد انتصاف ولاية العهد، وتتصاعد في السنوات التالية، إلا أنها لا تحسم إلا في الساعات الأخيرة، فيقال إن «فلاناً نام رئيساً» للجمهورية واستفاق على استبدال اسمه بآخر.
هذا ما حصل مع حميد فرنجية عام 1952، بانتخاب كميل شمعون، ومع عبدالعزيز شهاب بانتخاب شارل حلو، وهو ما حصل أيضاً مع مخايل الضاهر الذي رشّحه الأميركيون بالاتفاق مع سوريا، فلم تحصل الانتخابات وعمّت الفوضى في العام 1988. لكن ماذا عن الانتخابات الرئاسية القادمة في لبنان؟ وهل ما زال الوقت مبكراً للخوض في بورصة الأسماء؟
الرئاسة المبكرة
الرئيس عون نفسه هو مَن فتح موضوع رئاسة الجمهورية مبكراً، عندما رد على سؤال حول استهداف الوزير جبران باسيل سياسياً، فكان جوابه «إنه السباق الرئاسي»، وكأنه يقدمه مرشحاً لخلافته في رئاسة الجمهورية، حيث اعتُبر تصريح عون تبنّياً لترشيح صهره قبل موعد الانتخابات بأكثر من أربع سنوات، وبعد أن مهّد له الطريق ليحل مكانه في رئاسة «التيار الوطني الحر»، من دون إجراء انتخابات داخلية.
وبالرغم من التوضيح الذي صدر عن رئاسة الجمهورية، بأن الكلام جاء في سياق الرد على تعقيدات تشكيل الحكومة، حيث يتشدّد باسيل مدعوماً من الرئيس عون في تحديد الأحجام الوزارية المسيحية والحقائب السيادية والخدماتية، في إطار التحضير للسباق الرئاسي، تماماً كما كان عليه الوضع أثناء الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ كان كل طرف مسيحي يحاول أن يحصل على أكبر عدد من المقاعد، لتكون له كتلة نيابية وازنة، وقد تمّ التطرق للانتخابات في الشمال على أنها معركة تمهيدية لرئاسة الجمهورية، لأنها تضم أربعة مرشحين بارزين هم: سليمان فرنجية، سمير جعجع، بطرس حرب وباسيل، وأن المنافسة على مَن يحصل على العدد الأكبر من الأصوات والمقاعد، في الشمال وغيره من المحافظات.
الأكثر تمثيلاً
جاءت نتائج الانتخابات لتعطي كل حزب وتيار حجمه النيابي وثمثيله الشعبي، فحصد «التيار الوطني الحر» 19 نائباً حزبياً و10 نواب من الحلفاء بما مجموعه 29 نائباً غالبيتهم من المسيحيين باستثناء النائب طلال إرسلان درزي والنائب مصطفى الحسين علوي، في حين زادت كتلة «القوات اللبنانية» من 8 نواب إلى 15، أي ضعف ما كانت عليه في دورة العام 2009، ليبدأ الصراع على مَن يملك التمثيل المسيحي وأحقية المقاعد الوزارية والحقائب السيادية والخدماتية، حيث يحاول «التيار الوطني الحر» أن يُمسك بإدارات الدولة، كما وزاراتها ليسهل على رئيسه خوض معركة الرئاسة المقبلة التي يطمح إليها باسيل مدعوماً من رئيس الجمهورية الذي أفصح عن أن المنافسة بدأت رغم أن ذلك قد ينعكس إضعافا لعهده وهو الذي لا يزال ينتظر انطلاقته بولادة «حكومة العهد الأولى».
ولاية مجلس النواب
وإذا كانت نتائج الانتخابات النيابية أفرزت الأكثر تمثيلاً، فإن المجلس النيابي الحالي ليس هو مَن ينتخب رئيس الجمهورية القادم، لأن ولايته الدستورية تنتهي في 6 أيار (مايو) من العام 2022، وانتخابات رئاسة الجمهورية تجري ما بين أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، وبالتالي فإن الانتخابات النيابية ستسبق الرئاسة، ما يعني أن التوازنات الحالية قد تتبدل بحيث يصعب تقدير حجم الكتل النيابية من الآن.
صناعة رئيس الجمهورية
من المبكر الخوض في سباق رئاسة الجمهورية ٢٠٢٢، إلا أن المرشحين لها، هم الساسة الموارنة، إضافة إلى مَن يكون قائداً للجيش أو حاكماً لمصرف لبنان، كما تم التداول في كل استحقاق رئاسي، رغم تغيرات الظروف الداخلية والعوامل الإقليمية والدولية.
لا يمكن الاستعجال وحرق المراحل. وتجربة العماد ميشال عون أكبر برهان، إذ أن اسمه طُرح قبل عامين من انتهاء ولاية الرئيس الأسبق أمين الجميّل عام 1988، لكن المعادلات الداخلية والخارجية عاكسته، فخاض حروباً انتهت بنفيه إلى فرنسا، ليعود منها في العام 2005، بعد انسحاب القوات السورية، لينتخب في العام 2016 رئيساً للجمهورية، وكان قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد سبقه إلى الكرسي في أيار 2008، بعد اتفاق الدوحة وغطاء دولي–إقليمي أبعد عون عن رئاسة الجمهورية قبل أن ينجح بالوصول إليها بعد 30 عاماً من تسميته للمرة الأولى.
وما مسيرة عون إلى قصر بعبدا، إلا دليل واضح على أن رئاسة الجمهورية ليست صناعة لبنانية، ولا يمكن أن تتم إلا بظروف دولية وإقليمية سانحة، وهو ما حصل مع الرئيس عون الذي تحالف مع «حزب الله» وتمّ تعطيل جلسات الانتخاب لنحو عامين ونصف العام، حتى حانت التسوية.
أبرز المرشحين
بين أبرز المرشحين لرئاسة الجمهورية، يأتي رئيس «تيار المردة» متقدماً على الآخرين، ولو لم يملك كتلة نيابية بحجم منافسيه، لكنه لديه حلفاء رشّحوه وخصوم سياسيون أيّدوه، كما فعل الرئيس الحريري الذي دعم ترشيحه مع وليد جنبلاط والرئيس نبيه برّي، قبل أن تميل الكفة لصالح عون بدعم من «حزب الله» الذي يعتبر فرنجية مرشحه الطبيعي في الدورة المقبلة.
هذا تحديداً ما يخشاه باسيل الذي ما انفك يروّج لقاعدة «الأقوى في طائفته» –أي أن الأكثر تمثيلاً هو مَن يحق له أن يتبوأ موقع طائفته الأول في النظام السياسي– وأن رئيس الجمهورية ليس موظفاً أو بلا قاعدة شعبية، بل هو الممثل الأقوى في طائفته، مما يسمح له بلعب دور محوري في تركيبة السلطة وتوزعها على الطوائف.
باسيل يعتبر أنه الأقوى في طائفته، وستزداد قوته مع وجوده في السلطة، فتأتي الانتخابات النيابية وبعدها الرئاسية، وقد حصد كتلة أكبر من الحالية.
لكن واقعياً، تتقدم «القوات اللبنانية» في «المجتمع المسيحي» الذي رفعت شعار الدفاع عنه أثناء الحرب الأهلية، وهي مستمرة في النهج ذاته «سلمياً»، عبر استمالة الطلاب والشباب، وقد حققت نجاحات واضحة في هذا المجال، حيث باتت الأقوى في الجامعات والمدارس، والأكثر حضوراً في النقابات ونشاطاً في البلديات، وأفضل تنظيماً من «التيار الوطني الحر» الذي تنخره الانقسامات وتعدد الولاءات، فيما يحاول رئيسه باسيل الإمساك به وتنظيمه لمواجهة الزحف «القواتي» في الساحة المسيحية التي انقرضت فيها أحزاب تاريخية كـ«الكتلة الوطنية» و«الوطنيين الأحرار»، في ظل ضعف حزب «الكتائب»، وصعود «تيار المردة» الذي حافظ على وجوده السياسي والشعبي، في وقت غابت فيه عائلات وبيوت سياسية عريقة.
مَن يسبق مَن؟
موقف الرئيس عون من فتح معركة السباق الرئاسي قبل أوانها وفي توقيت لم تنجل أسبابه بعد، يمكن تفسيره بأن رئيس الجمهورية الذي بلغ الـ84 عاماً، يضع في حسابه أنه ربما قد لا يقضي كامل ولايته، وهو احتمال قائم لشخص متقدم في السن، وهذا ما يتم تداوله سياسياً وشعبياً في لبنان، وقد يكون هذا ما قصده العماد عون بإطلاق السباق الرئاسي مبكراً، فحجز لباسيل مقعداً أو كرسياً في نادي المرشحين لرئاسة الجمهورية، وهو ينظر إليه كولي عهد، ولو كان لبنان محكوماً بنظام برلماني، إلا أن عقلية التوريث هي السائدة في لبنان سواء في السياسة أو غيرها من المهن.
التسوية الرئاسية
مفاعيل التسوية الرئاسية التي قامت بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» وأدت إلى انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، لن تسري بالضرورة على انتخابات الرئاسة المقبلة، لاسيما وأن التطورات حبلى بالتحولات والمفاجآت محلياً وإقليمياً ودولياً، وبالتالي فإنه من الخطأ السياسي، أن تبني أي جهة خطتها السياسية أو استراتيجيتها على الوضع القائم حالياً، لكن الواضح أن الرئيس عون بفتح المنافسة على كرسي الرئاسة وجهت رسالة لمن يهمه الأمر بأن مرشحه هو صهره جبران باسيل.
Leave a Reply