النازحون وإعادة الإعمار عنوانان للاشتباك السياسي المتجدّد بين روسيا والولايات المتحدة حول سوريا، قبل القمة الرباعية المرتقبة في اسطنبول، الشهر المقبل، والتي ستجمع، للمرّة الأولى حول طاولة واحدة، كلّاً من رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين وأنغيلا ميركل وإيمانويل ماكرون.
لم تتأخر الولايات المتحدة في إطلاق موقفها «السلبي» تجاه هذه القمة، فهي أعلنت بوضوح أن «لا بديل عن مسار جنيف»، في موقف جديد، يعكس القلق من التحرّكات الروسية التي تجاوزت «معضلة جنيف» والتي فشلت اجتماعاتها المتعدّدة، طوال عمر الأزمة السورية، في تحقيق أيّ اختراق حتى حين يتعلق الأمر بجمع الفرقاء السوريين في قاعة واحدة!
في الواقع، بات الكل على قناعة راسخة بأنّ «معضلة جنيف» من صنيعة الولايات المتحدة وحدها، فهي التي تعاملت مع مسار التفاوض بعنوان «نحن ولا أحد»، فسعت إلى إقصاء اللاعبين البارزين، سواء كانوا محليين (الأكراد)، أو إقليميين (إيران)، وهو ما جعل أيّ تحرّك يقوده المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا استيفان دي ميستورا، طوال السنوات الماضية، محكوماً بالفشل المؤكد.
على النقيض، سعت روسيا إلى احتواء الجميع، على النحو الذي شهده الكل في أستانا وسوتشي، فتجاوزت الخلافات السياسية حول الملف السوري مع تركيا، فجعلتها ضامناً للمسار التفاوضي، ودوّرت الكثير من زوايا التباينات مع إيران، لتصبح الضلع الثالث من الجهات الضامنة، لا بل أن الولايات المتحدة كانت دوماً مدعوة إلى المشاركة، برغم العراقيل والألغام السياسية، التي سعت الأخيرة إلى وضعها في طريق الحل السياسي.
على هذا الأساس، بدا الحديث عن «جنيف» مقتصراً على بضعة تحرّكات روتينية لاستيفان دي ميستورا، بين وقت وآخر، حتى أن المبعوث الأممي بات مقتنعاً، بتقدّم «استانا»، حتى من دون تصريح، خصوصاً أن الجانب الروسي لا يزال منفتحاً على فكرة تكامل المسارات.
ومما لا شك فيه أن الكل بات على قناعة واضحة بأن «أستانا» و«سوتشي» أنجزا ما عجز «جنيف» عن تحقيقه منذ نسخته الأولى، وهو ترجمة العملية التفاوضية بخطوات على أرض الواقع، وفق ما صار يعرف بـ«خطة مناطق خفض التصعيد».
قمة اسطنبول
تأتي قمة اسطنبول المرتقبة لتكرّس اعترافاً جديداً بنجاح ذلك المسار المقترن بالضامنين الثلاثة –روسيا وتركيا وإيران– وهو ما بات يشكّل مصدر قلق جدي لدى الولايات المتحدة، الذين يتحسّبون للتداعيات الناجمة عن تضعضع الموقف الغربي الذي كان حتى الأمس القريب متماسكاً خلف الموقف الأميركي.
بطبيعة الحال، لا يمكن النظر إلى هذا التحوّل المرتقب، باعتباره مجرّد «صحوة» أوروبية، فالولايات المتحدة نفسها دفعت «حلفاءها» إلى هذا الخيار، حين دفع رئيسها دونالد ترامب بالتناقضات المرتبطة بالتجارة العالمية والملف الإيراني وحلف شمال الأطلسي إلى نقطة بات معها الأوروبيون يتساءلون عمّن هو الصديق ومن هو الخصم!
وبذلك لم يجد ماكرون أو ميركل حرجاً في تكثيف لقاءاتهما مع فلاديمير بوتين، برغم محاولات العزلة التي سعت الولايات المتحدة لفرضها على روسيا، والتي انكسرت عملياً في «قمة هلسكني» حين جلس بوتين وترامب وجهاً لوجه، في ما اعتبره الروس الانتصار المدوّي، بصرف النظر عمّا خرج به الاجتماع التاريخي نفسه.
ماذا يريد بوتين؟
كان ملفتاً أن الرئيس الروسي قد حدّد بشكل مسبق الإطار العام الذي ستدور حوله القمة الرباعية، حين وجّه دعوةً صريحة إلى الدول الأوروبية للمساهمة مالياً في إعادة إعمار سوريا، من أجل تمكين ملايين اللاجئين من العودة إلى بلدهم.
وقال بوتين على مسامع المستشارة الألمانية «نحن في حاجة إلى توسيع الجهود الإنسانية في الصراع السوري، وأعني بذلك المساعدات الإنسانية بالدرجة الأولى للسوريين، وتوفير الدعم للمناطق ليتمكن اللاجئون المقيمون في الخارج من العودة إليها»، مذكّراً بأنّ هناك مليون لاجئ في الأردن وعدداً مماثلاً في لبنان وثلاثة ملايين في تركيا.
ونبّه الرئيس الروسي إلى أنّ أزمة اللاجئين «يمكن أن تشكّل عبئاً هائلاً على أوروبا»، مضيفاً «لهذا السبب ينبغي القيام بكل شيء ليعود هؤلاء الناس إلى ديارهم»، ما يعني عملياً إعادة تأمين الخدمات الأساسية مثل «شبكتَي المياه والكهرباء والبنى التحتية الطبية».
بطبيعة الحال، فإنّ الأميركيين باتوا منذ مدّة يتعاملون مع الدعوات الروسية لتسهيل عودة اللاجئين واعادة الإعمار في سوريا، باعتبارها محاولة روسية لتحقيق مكسب دبلوماسي، يكرّس المكاسب العسكرية التي تحققت منذ بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا.
لذلك، لم يكن مستغرباً الفتور الأميركي بشأن المبادرة الروسية الخاصة بعودة اللاجئين، والتي باتت أحد المحاور الرئيسية للحراك الدبلوماسي الروسي خلال الأسابيع الماضية.
انسحاب أميركي
إنّ ما تكبّدته الولايات المتحدة بشكل خاص، والغرب بشكل عام، من خسائر جيوسياسية في سوريا منذ تشرين الأول العام 2015، يجعل الأميركيين أكثر تحفظاً في تسهيل الدور الروسي بشأن اللاجئين واعادة الإعمار، وهو ما يفسّر على سبيل المثال، إعلان ترامب أن بلاده لن تسدّد الدفعات السنوية لبرنامج «إعادة الإعمار» في سوريا، موكلاً المهمة للسعودية و«الدول الغنية الأخرى»، وهو ما أكده في إحدى تغريداته الأخيرة التي قال فيها إنّ «الولايات المتحدة ستوقف هذه المدفوعات السنوية السخيفة البالغة 230 مليون دولار لإعادة إعمار سوريا»، لأن «السعودية وبلداناً غنية أخرى في الشرق الأوسط ستتكفّل بها عوضاً عن الولايات المتحدة». وأضاف: «أريد تطوير الولايات المتحدة وجيشنا والبلدان التي تساعدنا».
ولم يكن مستغرباً أيضاً أن بريطانيا سارعت إلى ملاقاة الموقف الأميركي، من خلال الإعلان، بعد يوم واحد على تغريدة ترامب، بوقف تمويل بعض برامج المساعدات «غير الإنسانية» في مناطق يسيطر عليها مسلّحو المعارضة، وذلك «بعدما أصبح الوضع على الأرض في بعض المناطق صعباً على نحو متزايد»، وفقاً لما نقلت وكالة «رويترز» عن متحدث باسم الحكومة البريطانية.
وجاء هذا الإعلان بعد تقرير أوردته صحيفة «تايمز» البريطانيّة، ذكرت فيه أن محاولة تشكيل قوة شرطة مستقلة ستُلغى اعتباراً من أيلول المقبل، في الوقت الذي تجري فيه مراجعة مشروعات تمويل المجالس المحلية، ومن المرجح وقفها بحلول نهاية السنة المالية.
ومما لا شك فيه أن القرارين الأميركي والبريطاني ينطويان على رسالة مباشرة في تبني سياسة أكثر تحفظاً تجاه الروس في سوريا، استجابة لضغوط داخلية ترى أن «الاستجابة الأميركية تعني حمل عبء من أعباء عملية إعادة الإعمار التي يجب أن تقع على كاهل روسيا وسوريا وحدهما وليس على حساب دافعي الضرائب الأميركيين»، حسبما أوردت صحيفة «يو أس أي توداي»، إلى جانب نصائح من داخل فريق الأمن القومي في البيت الأبيض، بأن استجابة كهذه تعني على المستوى الاستراتيجي، السماح لبوتين بتحقيق مكسب دبلوماسي من شأنه أن يكرّس انتصاراً جيوسياسياً لروسيا على حساب الغرب.
مناورة
في مطلق الأحوال، فإنّ كثيرين في الولايات المتحدة يتعاملون مع المبادرة الروسية المرتبطة بعودة اللاجئين واعادة الإعمار باعتبارها مجرّد مناورة سياسية، الهدف منها إحراج الأميركيين، وذلك في ذروة التخبط الذي تشهده السياسة الخارجية الاميركية، لا بل إن محللين كثراً أقرّوا بأن بوتين بهذه الخطوة يحاول تسجيل مزيد من النقاط على واشنطن، خصوصاً وإنه يدرك سلفاً بأن الرئيس الأميركي –أو الفريق المحيط به– مضطر إلى رفض أية مبادرة روسية بشأن سوريا، وعندها فقط، سيقول الروس للعالم بأنّ الولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة التي تعرقل الحل الإنساني… قبل السياسي.
ويبدو واضحاً أن بوتين يراهن أكثر على الدور الأوروبي في هذا الإطار، لاسيما أن ثمة عوامل كثيرة قد تدفع ألمانيا أو فرنسا إلى التغريد خارج السرب الأميركي، لعلّ أهمها المخاطر الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي انتجتها أزمة اللاجئين في أوروبا، والتي أدّت خلال السنتين الماضيتين إلى تنامي قوة اليمين المتطرف في أوروبا، والمأزق الاقتصادي الذي تسبب به ترامب بقراره الانسحاب من الاتفاق النووي، وبالتالي قطع الطريق على المشاريع الأوروبية في الجمهورية الإسلامية، وهو ما يجعل الرهان الأوروبي ممكناً على مشاريع بديلة، من بينها مشاريع إعادة الإعمار في سوريا.
Leave a Reply