ماذا وراء القرارين الأميركيين المتزامنين الأسبوع الماضي، بوقف تمويل ما يسمى «عملية تثبيت الاستقرار في سوريا»، وتعيين دبلوماسي رفيع ومتمرس في منصب تم انشاؤه خصيصاً من أجله، وهو «المبعوث الخاص من أجل سوريا» Special envoy for Syria. لا يمكن الإجابة على هذا السؤال بموضوعية في ظل الفوضى العارمة في السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترامب والتخبط الداخلي الذي تعيشه إدارته بسبب مناكفاته المتواصلة وحالة عدم اليقين التي تحيط بمستقبله في ظل تواصل التحقيقات القضائية في احتمال تورطه مع الحكومة الروسية في التأثير على مسار انتخابات الرئاسة الأخيرة.
ففي قرار مفاجئ أبلغت وزارة الخارجية الكونغرس، يوم الجمعة الماضي، أنها لن تقوم بصرف مبلغ 230 مليون دولار التي كانت مخصصة لمشاريع من أجل تثبيت الاستقرار في سوريا. وقالت المتحدثة باسم الخارجية، هيذر ناورت، إن القرار الذي اتخذه وزير الخارجية مايك بومبيو لن يؤثر على المساعدات الإنسانية، وإن حلفاء أميركا تعهدوا بتقديم المبلغ الذي تكفلت المملكة العربية السعودية بدفع 100 مليون دولار منه. وكان وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون طلب من الكونغرس تخصيص هذا المبلغ لمشاريع ميدانية في المناطق التي أخلاها تنظيم «داعش» وخصوصاً مدينة الرقة. إلا أن إدارة ترامب قررت تجميد المبلغ لإعادة النظر فيه قبل الإعلان عن حجبه بناء على قرار الوزير الجديد.
وفيما رأت بعض التقارير أن هذه الخطوة تأتي في سياق رغبة ترامب بالخروج من سوريا، قالت المتحدثة باسم الخارجية إن الغاية منه تلبية رغبة البيت الأبيض بمشاركة حلفاء أميركا في تحمل الأعباء المالية ولا يعني تراجع واشنطن عن أهدافها الاستراتيجية في سوريا. إلا أن كبير الأقلية الديمقراطية في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، السناتور روبرت منينديز، استنكر القرار واعتبره بمثابة «قفزة لترامب في مسيرته للتخلي عن القيادة الأميركية على المسرح الدولي، ورسالة تعني أن الولايات المتحدة تنسحب وتتخلى وهذا موضع مخجل». كذلك استنكر القرار، الأعضاء الديمقراطيون في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، معتبرين أن القرار قصير النظر بشكل مدهش، وأنه محاولة التفاف من الإدارة على الصلاحيات المالية للكونغرس.
وقبل أن تهدأ الضجة التي أثارها القرار أعلن بومبيو في قرار منفصل تعيين الدبلوماسي المخضرم جيمس أف. جيفري مبعوثاً خاصاً من أجل سوريا. وقالت المتحدثة باسم الخارجية إن القرار يهدف إلى «طمأنة شركاء أميركا في التحالف ضد داعش وكذلك معارضي الرئيس السوري بشار الأسد». وجيفري دبلوماسي متمرس شغل منصب سفير أميركا في البانيا كما شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وبعدها سفيراً لدى تركيا بين عامي 2008 و2010، ثم العراق بين عامي 2010 و2012. والمعروف عن جيفري، من خلال ندواته وكتاباته الحرص الشديد على العلاقة مع تركيا والتشكيك الواضح بـ«مساعي فلاديمير بوتين لتقويض النفوذ الأميركي».
وقال جيفري في مقابلة صحفية مع صحيفة «جيروزاليم بوست» الشهر الماضي تعقيباً على قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين إنه يتوقع أن يحاول ترامب إجراء عملية مبادلة بين حل لقضية شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا وبين الحصول على مساعدة روسية لإخراج إيران من سوريا، معتبراً ذلك أمراً في منتهى الصعوبة بسبب العقوبات التي فرضها الكونغرس والأوروبيون على روسيا والتي لا يمكن لترامب تجاهلها، حتى لو أعلن نوعاً من القبول بالأمر الواقع في القرم من جهة، وعدم قدرة الروس على إخراج إيران من سوريا من جهة أخرى، مشيراً إلى أن بوتين عازم على تقويض كل النظام الأمني الأميركي في الشرق الأوسط وسيواصل ترامب مساعدته كما فعل سلفه باراك أوباما بطريقة أخرى. وقال «يعتقد ترامب بأنه قادر على الحصول على ما يريد بلا ثمن وهذه من أعظم خدع الدبلوماسية».
إلا أن الديباجة التي مهدت لتسلم جيفري لمنصبه الذي أنشئ من أجله لم تلق ارتياحاً لدى بعض المراقبين، حيث قالت ناورت إنه سيقود الجهود الأميركية لتنشيط مساعي السلام المعطلة منذ وقت طويل والمعروفة باسم «عملية جنيف» بين الأسد وخصومه والدول ذات المصالح في سوريا. ورأى المتابعون أن صياغة مهمة جيفري بهذه الطريقة رسمياً قد تقود إلى المزيد من التخلي الأميركي عن دور فعال لمصلحة روسيا التي تعتبر اللاعب الأكبر على الساحة السورية. وسارع وزير الخارجية إلى ترتيب أداء القسم لجيفري ليبدأ مهامه على الفور دون إعلان عن تفاصيل إقامته أو أية جولات سيقوم بها قريباً.
ويتخوف المراقبون من أن تكون الخطوة الأميركية تمهيداً لإعادة التواصل –ولو عبر قنوات خفية– بين الإدارة الأميركية وبين النظام السوري إذا طلب الروس من واشنطن ذلك، خصوصاً وأن المروحة الواسعة من القضايا الشائكة، من الوجود الإيراني عبر المستشارين والميليشيات المدعومة من طهران إلى النازحين إلى اللاجئين إلى إعادة الإعمار إلى حل المعضلة الكردية في الشمال وصولاً إلى الاتفاق على مرحلة انتقالية وكل ذلك قبل الانتهاء ميدانياً من وجود داعش والتنظيمات الإسلامية المتشددة في إدلب، سيجعل من التواصل مع النظام مباشرة أو مداورة، أمراً لا فكاك منه.
Leave a Reply