يبدو المشهد مكرّراً حتى الملل. ما إن يطرأ تحوّل ميداني محوري في الحرب السورية حتى تخرج «شياطين» الدنيا، ممسكة بيدها ملفاً بات مستهلكاً حتى اصفرت أوراقه، ولم يعد يُنظر إليه، سوى أنه فصل من مسرحية مبتذلة، أو بعبارة أدقّ، فيلم «هوليوودي» فاشل.
هذا المشهد المكرّر والممل تمّ تجهيز أدواته، مواكبةً للاستعدادات الأخيرة السابقة لمعركة إدلب، آخر فصول الحرب السورية عسكرياً، وآخر معقل للإرهاب التكفيري الذي يحاول الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، حمايته تحت عنوان مستهلك هو «الهجوم الكيميائي».
حتى الآن، كلّ المؤشرات تشي بأنّ الجيش السوري، مدعوماً بالقوات الجوية الروسية، على قاب قوسين أو أدنى من الإعلان عن الساعة الصفر لانطلاق معركة تحرير إدلب التي باتت شبه محسومة من حيث القرار –وهو ما تعكسه التصريحات العلنية السورية والروسية، وآخرها تأكيد من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لنظيره السعودي عادل الجبير– أو من حيث النتيجة، التي تتراوح بين الحسم العسكري أو المصالحات الميدانية.
لا يجادلنّ اثنان في ذلك، خصوصاً أن مجريات المعارك السابقة من جنوب سوريا إلى شمالها، أظهرت أن موازين القوى عسكرياً باتت واضحة بما لا يحمل الشك، أن الجيش السوري يسير من انتصار إلى آخر.
ثمار إدلب
في الحالة الإدلبية، الانتصار ستكون ترجماته مختلفة عن كل ما سبقه، فالمحافظة السورية الشمالية باتت منذ فترة المنطقة الأشهر التي ارتبطت بهزائم المسلحين الذين راحوا يتكدّسون فيها، سواء بـ«انسحابات تكتيكية» أو بتسويات موضعية في الجبهات الأخرى، ما يعني أن استعادة السيطرة عليها من قبل الجيش السوري ستكرّس من الناحية العملانية، استعادة الدولة السورية على كامل التراب السوري، إذا ما استثنينا المناطق الشمالية الخاضعة لما يسمّى «الإدارة الذاتية» الكردية، والتي لا تشكّل من الناحية العسكرية والسيادية أيّة خطورة، طالما أن المكوّن الكردي السوري بات أقرب، براغماتياً، إلى التوصل لحلول تفاوضية تضمن حقوقه السياسية ضمن إطار الدولة السورية الموحّدة، أيّاً كان شكل نظامها السياسي المستقبلي.
أمّا من الناحية السياسية، فإنّ انعكاسات معركة إدلب ستكون المفتاح الأساسي لمجمل التحركات السياسية المتجاوزة للأراضي السورية، والمتصارعة عليها، فالحسم العسكري، أياً كان شكله، سيعني أن الحرب السورية (الأهلية) قد انتهت، خصوصاً أن المجموعات المسمّاة «معارضة معتدلة» انخرطت في تسويات برعاية روسية، وبالتالي فإنّ من سيتبقى من مسلّحين، فور بدء المعركة العسكرية الحاسمة، سيكونون من المجموعات المعترف بطابعها الإرهابي دولياً، بما يشمل تحديداً «جبهة النصرة» وأخواتها، بجانب تنظيم «داعش» الذي يكاد وجوده ينحصر في بعض الجيوب المعزولة، بعد سقوط شعار «باقية وتتمدّد».
ما بعد إدلب
الكل سيتعامل مع الملف السوري بعد الحسم في إدلب، على أساس أن ثمة مرحلة جديدة قد بدأت، وعنوانها العريض إعادة الإعمار، بكل ما تحويه هاتان الكلمتان من طابع اقتصادي يسعى كل الأطراف، صغاراً وكباراً، القطف ثماره.
من هنا، يمكن فهم الكثير من التحرّكات السياسية التي بدأت تشهدها القنوات الدبلوماسية المباشرة والخلفية في كل اتجاه، لتحديد قواعد اللعبة في مرحلة ما بعد انتصار الدولة السورية، وهو ما قاد في السابق عدداً من دول أوروبا –فرنسا وألمانيا على سبيل المثال– إلى التهافت باتجاه روسيا في زيارات متعددة، ستتوّجها في أواسط شهر أيلول، قمة رباعية بدأت التحضيرات لانعقادها في اسطنبول، لتجمع قادة روسيا وتركيا والمانيا وفرنسا.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى مجمل التطورات السياسية والعسكرية المرتبطة بالحرب السورية إلا في إطار عنوان واحد هو «فشل المشروع الغربي»، وتحديداً المشروع الأميركي، الذي راح يفقد أوراقه الواحدة تلو الأخرى في مواجهة الإصرار الروسي على الطابع «الستالينغرادي» للمعركة السورية.
ورقة الكيميائي
لعلّ كل ما جرى في سوريا، منذ بدء التدخل العسكري الروسي في خريف العام 2015، وحتى اليوم، يؤكد أن الولايات المتحدة باتت مفلسة في أوراق المواجهة، بما في ذلك ورقة «الكيميائي» التي سعت إلى استخدامها بشكل متكرّر منذ بدء الحرب السورية، سواء في عهد باراك أوباما أو في عهد خلفه دونالد ترامب. إذ أن فصول «المسرحية الكيميائية» بدأت منذ أن ذهب أوباما بعيداً في مغامرة تغيير المعادلة السورية عام 2012، في ما عُرف حينها بهجمات خان العسل وغوطة دمشق، والتي كادت أن تتحول إلى عدوان واسع، لولا الحنكة الدبلوماسية الروسية والسورية، والضغوط التي مارستها بعض الدوائر النافذة في المؤسسة العسكرية الأميركية لمنع صدام شامل، ليتم إنزال أوباما عن الشجرة بتسوية نزع الترسانة الكيميائية من سوريا تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما تحقّق بالفعل، بحسب تقارير المنظمة الدولية نفسها.
منذ ذلك الوقت، لم يعد أمام الولايات المتحدة سوى المسرحيات الفاشلة المرتبطة بالكيميائي، التي راح دونالد ترامب يستغلها لإظهار فشل «الخطوط الحُمر التي رسمها أوباما في الرمال» على حد وصفه، مكتفياً بضربات جوية محدودة، على إيقاع المتغيّرات الميدانية في مختلف الجبهات السورية، وتحت وقع الخلافات الداخلية التي تحاصره من كل حدبٍ وصوب في الولايات المتحدة.
في هذا السياق، يمكن وضع التصعيدين الأميركيين المرتبطتين بـ«مسرحية الكيميائي» بنسختيه الأولى، بعد «مسرحية خان شيخون»، والثانية بعد «مسرحية الغوطة الشرقية».
اليوم، لا تمتلك واشنطن من أدوات سوى تكرار المسرحية المملة، خصوصاً أن كل المؤشرات الداخلية والخارجية تشي بأن ترامب يستشعر المخاطر الكبرى التي تلاحقه، ابتداءاً من التحقيقات المستمرة في الولايات المتحدة بشأن التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية، وصولاً إلى اليقين الواضح بتهاوي الأوراق الأميركية في سوريا، في مقابل الاندفاعة الروسية المستمرة، التي من شأنها أن تجعل حتى حلفاء أميركا راغبين في إعادة التموضع سورياً.
روسيا تحذّر
لذلك، فإنّ التحذيرات الروسية من «هجوم استفزازي» يعدّ له المسلحون في إدلب، ستشكّل النسخة الأحدث من المسرحية المملة التي اختار الغربيون جماعة «الخوذ البيض» مخرجين فاشلين لها، بعدما أمّنوا عملية فرارهم قبل أسابيع من الجنوب السوري، عبر البوابة الإسرائيلية.
مع ذلك، فإنّ اليوم ليس أشبه تماماً بالأمس، فسواء وقع «الهجوم المفبرك» في إدلب، أو لم يقع، فإنّ الملل الذي يرافق سمة «مسرحية الكيميائي»، بات كفيلاً بألا يترك أثراً ملموساً، سوى بعض الجعجعات الإعلامية المألوفة والمواقف الدبلوماسية المعهودة على لسان مندوبة أميركا في مجلس الأمن نيكي هايلي، أو زميلتها البريطانية كارن بيرس، اللتين بات أداؤهما متراوحاً بين الكوميديا بالنسبة للأولى، والساحرة الشريرة بالنسبة للثانية.
ولعلّ الإفلاس الأميركي هذه المرّة سيكون أكثر وقعاً، على نحو قد يردع ترامب حتى عن تنفيذ هجوم «توماهوكي» جديد، على غرار ما حدث خلال العام الحالي، وما سبقه، خصوصاً أن الرأي العام، في الداخل الأميركي، بات على يقين بأن هذه التحرّكات ليست إلا محاولات من ترامب لتصوير نفسه كـ«قائد صلب» لـ«أميركا القوية»، لكنه هذه المرة يبدو مكبّلاً بين عدم جدوى تكرار المسرحية نفسها، أو الهروب إلى الأمام مجدداً من خلال تصعيد عسكري لا يعلم أحد مدى خطورة عواقبه.
يضاف إلى ما سبق أن التبدّلات في المشهد الدولي، خصوصاً بعدما بات الأوروبيون على يقين بأنّ أميركا لم تعد حليفتهم المعهودة –وهو ما تبدّى في الخلافات الأخيرة ذات الطابع السياسي والاقتصادي مع إدارة ترامب– وهو ما يجعل فرنسا، وبدرجة ما بريطانيا، غير معنيتين بالتصعيد الفارغ بوجه روسيا.
بذلك، فالمرجّح أن «مسرحية الكيماوي–النسخة الإدلبية» لن تكون هذه المرّة سوى محاولة يائسة للتشويش، اللهم إلا في حال قرر ترامب الذهاب نحو تصعيد أكبر، وهو أمر لن يكون، من الناحية المنطقية، سوى انتحار سياسي.
Leave a Reply