د. عبد الإله الصائغ
أغاثا كريستي (1890–1976) ولدت في بريطانيا من أب أميركي وأم إنكليزية، وقد عاشت وقتاً مهماً في العراق بين بغداد والموصل مرافقة لزوجها ماكس مالوان الباحث الأركيولوجي، وكتبت روايات في بغداد بعضها جلية الصلة برؤيتها للواقع العراقي وبعضها خفية. لكن رواية «جزيرة الموت» كانت تحكي أشياء تبدو حينها بعيدة عن الواقع العراقي بيد أن الرواية عكست رؤية استباقية للواقع العراقي (بعد الاحتلال 2003) بمخيال مركب مبهر.
نعم قد تكون الرواية غير معنية بمستقبل العراق وقد لا تكون مهمومة بمصيره السياسي أو الاجتماعي ولم تكن –ربما– راغبة بدور العرافة بما سيصيبه منذ أزيد من نصف قرن، ولكن سمة المبدع أن يرى الوقائع قبل حدوثها وذلك مما يساعد القرّاء على الاستقراء.
فكرة وجيزة عن جزيرة الموت
رواية مغايرة فهي لا تربط النتيجة بالسبب وهي ليست بوليسية تقليدية فقد ضللت أغاثا كريستي القارىء تضليلاً فنياً من أجل هدف تربوي جمالي مؤداه أن علينا أن نتوقع اللامتوقع وأن الشر مهما أوتي من ذكاء ومكر فهو تحت سمع القضاء الجمعي وبصره. لذلك يجب ملاحقته بجنان ثابت وعقل ثاقب..
جزيرة الموت تصنف ضمن روايات كشف الجريمة وهي تروي دعوة أشخاص تافهين مولعين بالوجاهة إلى قصر منيف مشهور منعزل في جزيرة سياحية منقطعة عن اليابسة إلا بقارب واحد فلبوا الدعوة وهم يجهلون الداعي والمدعوين ومسوِّغ الدعوة!
وبديهي أن البؤرة (العقدة) هي القيمة المركزية لأية رواية ناجحة؛ حتى عدّت مقياساً تتجلى من خلاله أهمية أية رواية؛ لكن التمحّل ممكن في الروايات البوليسية، لأن فكرة المجهول هي العقدة ذاتها.. وديباجة الرواية البوليسية مطالبة بكشف أمور غامضة والعقدة مطالبة بكشف غموض البطل أو الحدث، وهكذا جمعت «جزيرة الموت» لأغاثا كريستي بين مراحل العمل الروائي: الصعود والعقدة والنـزول في آن واحد؛ حيث يكون المجهول القاتل (بؤرة الرواية) سنعرف في الخاتمة أنه القاضي الذي تقاعد ليصفّي حسابه مع متّهمين ماكرين كانوا أذكى من المحققين والدولة فأفلتوا من العقاب القانوني. وهل يقدر المجرم على أن يفلت من عقاب الأرض والسماء معاً؟ القاضي موقن تماماً من أنهم مجرمون (الجريمة الشاملة) فحاكمهم القاضي المؤمن بأن القضاء عدالة وليس فقرات يمكن تجسيرها. حاكمهم بعد أن مرَّ وقت طويل على جرائمهم وبراءاتهم منها. توهموا أنهم أفلتوا للأبد من قبضة العدالة، لكن القاضي النجيب (العقل الجمعي) كان موجوعاً لأن المجرمين أفلتوا بالرشاوى أو بالمحامين أو عبر تغاضي الدولة عنهم، فاستأجر القصر ووجه الدعوات لهم… فهو مازال محتفظاً بعناوينهم وملفاتهم.
نفذ العقاب المؤجل فيهم بدم بارد فعاقبهم بالموت واحداً فواحداً في جوّ من الهلع يكون الموت أرحم منه بكثير.
المدعوون وهم يقهقهون ويأكلون بشهية فهموا من خلال صوت مكبر عال مفاجىء «سكوت.. انتبهوا ايها السادة انتم متهمون» إذن هم متهمون بجرائم كادت الذاكرة القانونية أن تؤدي إلى ترقين ملفاتهم.. أهي دعوة للفرح أم لتصفية حساب جنائي منسي؟ وفي مكان رومانسي؟ المدعوون محدودو العدد فكانوا يخسرون كل يوم واحداً دون مقدمات مع يقينهم من أن القصر خال إلا منهم وفجيعتهم أنهم غير قادرين على مغادرة القصر والهرب، فليس ثمة سبيل للوصول إلى الجهة الأخرى فاجتمعوا ذات هلع واعترفوا أن القاتل هو واحد منهم وهو بينهم واتخذوا إجراءات تحميهم من بعضهم لكن ذلك لم يوقف القاتل.
هذا كافٍ.. فالقصة مشهورة وانتجت فيلماً سينمائياً لكن الذي يهم القارىء الكريم الوشيجة بين عراق ما بعد 2003 ورواية «جزيرة الموت».
فالعراقيون شعب عربي متحضر كان يطمح إلى ديمقراطية تحاكي ديمقراطية الغرب وبخاصة أن كثيراً من أبنائهم درس في الجامعات الغربية وبشر بالمجتمعات المتحضرة! ثم حصلت الحرب العراقية الإيرانية الحمقاء وبعدها دخلت القوات العسكرية العراقية دولة الكويت ثم فرض حصار ظالم حاق بالشعب العراقي دون السلطة.
بشكل عام تطلع الناس إلى الحرية والكفاية واستثمر العقل الاستغلالي الكولينيالي حالة الضعف عند العراقيين فكان سيناريو الاحتلال الكارثي، وجاء حثالة العراقيين على ظهور دبابات المحتل ونصبهم المحتل حكاماً واستعمل الحكام الغطاء الديني كي يثق بهم العراقيون والعراقيون شعب متدين ووجد الحكام الجدد خزائنَ النظام السابق وقصورهم تحت تصرفهم حتى إذا نهبوها دون حساب التفتوا إلى النفط والمال العام فاستولوا عليها دون رادع من دين أو وازع من تربية ولسبب مريب استعجل البعض على الانتخابات وصناديق الاقتراع دون وجود ثقافة الاقتراع بين العراقيين الذين بلغ بهم الحصار درجة أن يبيع العراقي إحدى كليتيه بمئة دولار فقط!
وحدث المحظور فقد تشرعن وجود القادمين مع المحتل شرعنةً ديمقراطيةً وطالت السنة الحكام الجدد وطالت أياديهم وبعد صبر عراقي طويل ثقيل لم يقدر عليه أي شعب في الدنيا خرجت التظاهرات المليونية تهتف «باسم الدين سرقونا الحرامية»!
وتحصن الحكام بالمنطقة الخضراء التي لا يدخلها أحد دون تفتيش من خبراء أجانب وعراقيين فلا خوف على الحكام الجدد من حاقد أو كائد من واتر أو ثائر. وتفاهمت السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية على تقاسم الكعكة ومنذ 2003 إلى اليوم والشعب جائع خائف مريض منشغل بالمناسبات الدينية المظهرية التي شغلت أيام السنة بتمامها وبعد أن أمِن اللصوص من الحساب والعقاب كرروا لعبة الانتخابات وأسسوا الفضائيات، وأخذ اللصوص يشتمون اللصوص، والعملاء يلعنون العملاء، ومن جاء بالمحاصصة والملاصصة يشتم المحاصصة والملاصصة، وحين شاعت حكايات تزوير الانتخابات عرضت النتائج على القضاء والقضاء مسيس فطمأنهم على أن الانتخابات صحيحة لا غبار عليها!
وهاهم يجتمعون لكي ينتخبوا رئيس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس الجمهورية… أما العراقيون فعليهم القبول شاء من شاء وأبى من أبى. فكل شعوب العالم توافق على نتائج الانتخابات فبماذا يختلف العراقيون عنهم؟
وبعد، إن القاتل وإن أفلت من العقاب وإن السارق وإن تجنب الحساب، وإن الكاذب وإن لم يجرؤ أحد على تكذيبه، فيوم الحساب آت لا ريب فيه.
ويا من يلخِّصُ للدجالين الحاكمين باسم الاخلاق والدين يا من يلخص لهم رواية جزيرة الموت لأغاثا كريستي كي يتذكروا أن القضاة الشرفاء موجودون وأن العقل الجمعي يمتلك خارطة طريق لوضع العملاء والخونة في جزيرة الموت وفي ذات يوم ينشر قاض (مُعادِل رمزي للشعب) قائمة بأسماء من حكموا الناس دون مؤهلات ومن سرقوا الناس باسم الدين وعندها سيضع أسماءهم عند بوليس الانتربول… هذا إذا كانوا محظوظين كفاية، وإلا فغضب العراقيين لن ينتظر ولا يراهن عليه عاقل… فكل رؤساء العراق قبل هؤلاء انتهوا نهاية مروعة، ورحم الله أغاثا كريستي.
Leave a Reply