بداية أخرجت إدارة ترامب «القدس خارج الحسابات»، والآن، في دلالة خطيرة على تهورها، أعلنت الإدارة نيتها فعل الشيء ذاته فيما يتعلق بـ«حق العودة» للفلسطينيين. والإشارة الأولى على ذلك جاءت مع إعلان الإدارة أنها ستوقف المساعدات الأميركية كافة لـ«وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» الذين أجبروا على مغادرة منازلهم في عام 1948 ومرة أخرى في 1967. ومؤخراً، أيدت مجموعة من أعضاء الكونغرس «الجمهوريين» الإدارة في ذلك، فدشنت محاولة لقصر «وضع لاجئ» فقط على أولئك الفلسطينيين الذين كانوا ضحايا عمليات الطرد في عام 1948. وسأتناول في مقال لاحق التبعات السياسية والإنسانية المدمرة التي سيتمخض عنها «تعجيز أونروا».
ونظراً لأن إسرائيل لطالما رفضت تحمل أي لوم تجاه أزمة اللاجئين الفلسطينيين، ودأبت على رفض الاعتراف بأن أولئك الذين طردوا في 1948 لديهم أية حقوق عودة، فإن عزم الولايات المتحدة «إخراج قضية اللاجئين من على طاولة المفاوضات» وصفه أحد الكتاب الإسرائيليين بأنه «حلم يتحقق». بينما احتفى أحد وزراء حكومة «نتنياهو» بالخطوة الأميركية قائلاً: «أخيراً.. قول الحقيقة في وجه الأكذوبة العربية التي لطالما تم تسويقها في أنحاء العالم على مدار عقود، ولم يعد هناك سبب لكي يحلم الفلسطينيون بالعودة».
وتزعم إسرائيل أنها لا تتحمل أية مسؤولية عن اللاجئين الفلسطينيين. ومثلما اعتادوا، حاول الإسرائيليون التنصل من جرائمهم من خلال «خلق واقع بديل»، زاعمين أن الفلسطينيين غادروا منازلهم طوعاً، أو أنهم أمروا بمغادرتها مع تقدم الجيوش العربية. ورغم ذلك، تؤكد السجلات التاريخية أن قيادة الحركة الصهيونية هي من نفذت خطة مدبرة لـ «تطهير» مناطق بأسرها من سكانها العرب من أجل إقامة دولتهم المزعومة على مساحة أكبر من تلك التي قدمتها الأمم المتحدة.
والإسرائيليون متهمون وفقاً لتصريحاتهم،
فـ «يجال ألون»، زعيم المليشيات الصهيونية قال: «رأينا الحاجة إلى تطهير شمال الجليل وإنشاء استمرارية يهودية في المنطقة بأسرها، ومن ثم اتبعنا أسلوباً أدى إلى نتائج مذهلة، فقد جمعت جميع اليهود المنتشرين في القرى الفلسطينية المختلفة، وطلبت منهم نشر شائعات بأن قوة يهودية كبيرة وصلت إلى الجليل وأنها ستحرق القرى كافة في سهل الحولة».
وأما «ديفيد بن جوريون»، فقال، متحدثاً عن الخطة التي وضعت لتوسيع مساحة «الدولة العبرية» وتقليل عدد العرب داخلها: «إن هذه العمليات يمكن تنفيذها بالأسلوب التالي: إما بتدمير القرى، من خلال حرقها أو تفجيرها وبزرع ألغام في الركام»، وخصوصاً تلك المراكز السكانية التي تصعب السيطرة عليها بصورة دائمة، أو عن طريق عمليات الجمع والتحكم من خلال: «تطويق القرى وإجراء عمليات التفتيش داخلها، وفي حالة المقاومة، يتعين على القوات محوها وطرد سكانها خارج حدود الدولة».
وقال «يجال ألون»: «إن هناك حاجة لرد فعل قوي وعنيف، ولابد من الدقة في التوقيت والمكان والأشخاص الذين نضربهم، فإذا ما وجهنا اتهاماً لأسرة، فعلينا أن نؤذيها بلا رحمة، حتى النساء والأطفال، وإلا لن تكون العملية العسكرية فعّالة، وأثناء العملية، لا ينبغي أن نميز بين المذنب وغير المذنب».
وأما «مناحيم بيغن» فيقول: «إن العرب في أنحاء الدولة، الذين يصدقون قصص وحشية ميلشيا (أرجون) الصهيونية، أصيبوا بهلع لا حدود له وبدأوا يفرون بأرواحهم، ثم تطور الفرار الجماعي إلى اندفاع جنوني، لدرجة أن زهاء 800 ألف كانوا يعيشون في الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، لم يتبق منهم سوى 165 ألفاً، ولا تخفى الأهمية السياسية والاقتصادية لهذا التطور».
وفي أعقاب الحرب التي قُتل فيها آلاف الفلسطينيين وأجبر 700 ألف آخرون على الفرار، احتفى بن جوريون بما وصفه بـ«المعجزة المزدوجة» قائلاً: «إسرائيل مع مزيد من الأرض وقليل من العرب».
وبعد إعلان قيامها، حصّنت إسرائيل جرائمها ضد الفلسطينيين بتمرير سلسلة من القوانين الاستبدادية التي مكنتها من مصادرة الأراضي التي يمتلكها العرب (فصادرت أكثر من مليوني فدان من المنازل والأعمال والمزارع والبساتين)، ودمرت 385 قرية عربية. وكل ما فعلته كان محاولة لإزالة أي دليل مادي على تواجد الفلسطينيين.
وفي عام 1971، قضيت وقتاً في مخيمات الفلسطينيين أجمع قصصاً شخصية مرعبة لهؤلاء الذين طردوا، واطلعت على صورهم العائلية التي تظهر منازلهم التي أجبروا على تركها، والمفاتيح التي كانوا لا يزالون يحملونها، والتي أضحت رمزاً مقدّساً يرمز إلى ما فقدوه ويأملون في استعادته.
وقال لي أحدهم: «إن اليهود تذكروا 2000 عام، فكيف أنسى في 23 عاماً فقط؟».
وفي وجه ذلك، لا تبدو أفعال إدارة ترامب خطيرة ومتهورة فحسب، لكنها أيضاً قاسية ولا مبالية، وتشكل انتهاكات للقانون والمعاهدات الدولية. وإنني أنكمش خوفاً عندما أسمع عن نية إدارة ترامب استبعاد «حق العودة» من على «طاولة المفاوضات» في مواجهة التاريخ الذي لا يمكن إنكاره بشأن «عمليات التطهير العرقية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين» والمعاهدات الدولية حول حقوق اللاجئين».
فما يستبعدونه في الحقيقة من على طاولة المفاوضات هو حياة وثروات الفلسطينيين الأبرياء وأسرهم، وحكم القانون، والعدالة الإنسانية البسيطة، وإمكانية إحلال السلام.
وفي الحقيقة، لا يمكن التخلص من أكثر من 5 ملايين فلسطيني يعيشون تحت نير الاحتلال وفي مخيمات اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا، وفي ظل محاولاتهم فعل ذلك، فإن الإسرائيليين ليسوا وحدهم المذنبين بارتكاب جرائم تطهير عرقي، وإنما تجعل إدارة ترامب نفسها متورطة في هذه الجريمة.
Leave a Reply