الاشتباك العالمي يزداد سخونة
يوماً بعد يوم، وبوتيرة فائقة السرعة، تتزايد حدّة الاشتباك العالمي، الذي بات يتجاوز الاشتباك التقليدي، الذي شهده العالم خلال السنوات العشر الماضية، بأشكاله المتعدّدة، ليصل إلى مستويات أكثر خطورة، تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، ولتتعالى فيه أصوات طبول الحرب، التي بدأت تقرع شرقاً وغرباً.
تبعاً لذلك، تبدو الخريطة العالمية اليوم في مرحلة بالغة التعقيد، لا يمكن من خلالها استشراف المستقبل القريب، إلا من خلال الركون إلى مقاربات جيوسياسية خاصة، قد تكون أكثرها إفادة اليوم، نظرية «أثر الفراشة»، والمقصود بها تلك النظرية الفيزيائية في الأساس، والتي تقوم على فكرة أن الظواهر ذات الترابطات والتأثيرات المتبادلة والمتواترة التي تنجم عن حدثٍ أوّل، قد يكون بسيطاً في حد ذاته، لكنه يولد سلسلة متتابعة من النتائج والتطورات المتتالية والتي يفوق حجمها بمراحل حدث البداية، وبشكل قد لا يتوقعه أحد، وفي أماكن أبعد ما يكون عن التوقع.
وإذا كان ما عبر عنه مفسرو هذه النظرية، بشكل تمثيلي، يقول إن «رفرفة جناح فراشة في الصين قد تسبب عنه فيضانات وأعاصير ورياح هادرة في أبعد الأماكن في أميركا أو أوروبا أو أفريقيا»، فإنّ تعقيدات المشهد الدولي اليوم، تزيد من أرجحية تفسير كهذا، وتجعل مما يجري في إدلب «رفرفة جناح الفراشة» قد تولد سلسلة متتابعة من التطوّرات الخطيرة التي نشهد بوادرها اليوم.
حرب باردة جديدة
هذا البعد النظري يتأكد اليوم من خلال مجموعة تحرّكات في الصراع الدولي، بلغت ذروتها في استعراضات القوّة الجارية من أقصى الشرق الروسي، حيث جرت مناورات «فاستوك–2018»، غير المسبوقة من حيث حجمها منذ مناورات «راباد–1981» في أيام الاتحاد السوفياتي، أي في العشرية الأخيرة من الحرب الباردة بنسختها الأولى، والتي تجدّدت منذ سنوات بنسخة ثانية، تختلف فيها موازين القوى والاستراتيجيات بين محور روسي–صيني يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم، وبين محور أميركي–أوروبي يزداد تشققاً.
وفي هذه النسخة الجديدة من الحرب الباردة، يصعب اليوم تحديد مسار الأمور، أو توقع اللحظة التي يمكن أن يصبح العالم خلالها في حالة مواجهة مباشرة، في ظل إدراك مشترك لدى كل من روسيا والولايات المتحدة بأنّ «كاتالوغات» النسخة السابقة من تلك الحرب الباردة لم تعد صالحة لإدارة المرحلة الحالية، وهو ما يجعل شرارة الاشتعال غير متوقعة لا في المكان ولا في الزمان.
بذلك، لا يمكن الفصل بين استعراض القوة غير المسبوق منذ الثمانينيات في أقصى الشرق الروسي، أو بعبارة أخرى أقصى الشرق الأوراسي، عن استعراض القوة الأخطر، الجاري في الشطر الغربي من أوراسيا، أي في البحر الأبيض المتوسط، حيث يستمر حشد القطع البحرية سواء من قبل روسيا التي أجرت واحدة من أشدّ مناوراتها البحرية ضخامة في حوضه الشرقي، قبل أيام، ويقابله حشد للقطع البحرية الأميركية، بينها ما يحوي على صواريخ «توماهوك».
وبين فلاديفوستيك شرقاً، والحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط غرباً، تعود جبهة أوكرانيا –وهي نقطة استراتيجية أخرى في أوراسيا، التي وصفها زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض في عهد الرئيس رونالد ريغان أنها «رقعة الشطرنج الكبرى» في الصراع الدولي– تعود إلى بؤرة الأحداث، لا سيما بعد اغتيال رئيس جمهورية دونيتسك الموالية لروسيا، والمعلنة من طرف واحد، الكسندر زاخارتشنكو، وما رافق ذلك من حشد وحشد مضاد.
إدلب
ليس من قبيل المصادفة أن تتكثف كل تلك التحرّكات الخطيرة بتسخين أشد، عنوانه إدلب، البؤرة الأخيرة للإرهابيين، والتي تسعى روسيا لتطهيرها، بما يرسّخ انتهاء الحرب السورية.
لا جدال في أن معركة إدلب قادمة لا محالة، في ظل الاستعدادات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري في محيط تلك المحافظة، وقيام القوات الروسية بعملية التمهيد الناري المتدرّج عبر تكثيف عمليات القصف الجوي ضد معاقل الإرهابيين، فضلاً عن الحراك السياسي الذي تقوده موسكو في ميادين الدبلوماسية من نيويورك إلى طهران، والذي يقابله حراك غربي مضاد، عنوانه العريض «السلاح الكيميائي»، الذي بات ورقة وهمية، يخرجها الغربيون من حقائبهم كلما شعروا بعبء تحوّلات الجبهة السورية على مصالحهم المعروفة.
ولا يغيّر في حتمية المعركة المرتقبة في إدلب النتائج السلبية التي خرجت بها القمة الثلاثية في طهران، التي شارك فيها كل من فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وحسن روحاني، والتي أظهرت تعارضاً واضحاً بين الرئيسين الروسي والتركي بشأن عملية إدلب، في ظل إصرار الأول على المضي قدماً في الحسم العسكري الذي يسمح للدولة السورية باستعادة سيطرتها على كامل أراضيها، وسعي الثاني إلى كسب مزيد من الوقت، تحت شعار «تمديد وقف إطلاق النار»، في محاولة للعب آخر اوراق الابتزاز للغرب، خصوصاً بعد الاجراءات الأميركية الأخيرة التي أصابت عمق الاقتصاد التركي.
ولا شك في أنّ أردوغان يدرك حاجة الغربيين إلى تركيا التي تلتزم حتى الآن إلى جانب روسيا وإيران البحث عن تسوية سياسية في سوريا، بوصفها عضواً في الثلاثي الضامن لمسار آستانا، ولكنه يرغب في أن يجعل من إدلب الورقة الأخيرة المتاحة لكي لا يفقد كل ما خسره منذ العام 2011، ومن هنا فإنّ معارضة تركيا لشنّ هجوم على إدلب ينطوي على أسباب ثلاثة: ابتزاز الغربيين والروس على حد سواء، بغرض تحقيق بعض المكاسب الاستراتيجية، والحفاظ على تواجد في المعادلة السورية خصوصاً أن إدلب نفسها كانت بالنسبة إلى الاتراك «استثماراً» سياسياً وعسكرياً واجتماعياً ودينياً.
على هذا الأساس، يبدو أن أردوغان قد قرر المضي قدماً في آخر مغامراته السورية، حتى وإن اضطر إلى تجاوز بعض الخطوط الحُمر، من قبيل تعزيز قوة الفصائل المسلحة في إدلب استباقاً للمعركة «الحاسمة»، واستخدام ورقة اللاجئين، عبر التلويح بموجات نزوح هائلة باتجاه تركيا (وقد عمدت الصحف القريبة منه إلى نشر خرائط بيانية لموجات النزوح تلك)، وعلاوة على إثارة هلع دول الجوار السوري، كالأردن ولبنان، بأنّ عملية إدلب، إن بدأت، فستبدّد آمالهم بامكانية التخلص من عبء اللاجئين.
ضمن هذا المشهد المعقد، تشكل إدلب اليوم النقطة الجوهرية في الصراع، ليس في سوريا فحسب، بل على مستوى العالم، ما يشي بأنّ العملية العسكرية، في حال بدأت، ستفتح الباب أمام صراعات بالغة الخطورة، على المستويين السياسي والعسكري، خصوصاً إذا ما نفذ الغربيون تهديداتهم بضربة جديدة على سوريا، أو قرروا دعم المسلحين على الطريقة الأفغانية لاستنزاف الجيش السوري أكثر فأكثر، وبطبيعة الحال استنزاف روسيا.
حقل ألغام
مع أن السيناريوهات الأكثر تطرفاً تبقى احتمالاتها محدودة، خصوصاً في ظل استمرار وجود قنوات الاتصال العسكرية والدبلوماسية بين الروس والأميركيين، إلا أنّ حالة السيولة تعكس واقعاً مفاده أن الكل يسير ضمن حقل ألغام شديد الانفجار.
ولهذا السبب، فإنّ الخطاب الروسي يعكس رغبة في التعامل ببراغماتية مع الموقف، بعيداً عن أية مغامرات غير محسوبة النتائج.
وعلى هذا الأساس، تسلك القيادة الروسية طريقها بخطوات حذرة، بين التأكيد على أن المفاوضات سوف تستمر، وأن الحل الدبلوماسي لا يزال ممكناً، محاولة في هذا الإطار الحفاظ على شعرة معاوية مع الاتراك لحماية عملية آستانا… وبين المناورة العسكرية التي تسقط عن معركة إدلب طابع العملية الواسعة النطاق، بحيث تصبح المعركة خطوة بخطوة، وتتم خلالها استعادة السيطرة على البلدات الواحدة تلو الأخرى، لإجبار القوى المعارضة على الانسحاب أو الاستسلام.
وإذا ما اختار الروس هذه المقاربة فسيعني ذلك تجنب حدوث اصطدام مباشر غير مسبوق بين الجيشين الأميركي والروسي بفضل قناة الاتصال العسكرية في سوريا، التي لا تزال تعمل بشكل فعال.
ومع ذلك، فإنّ الأمور قد تخرج عن السيطرة في أية لحظة خصوصاً أن هناك ما يكفي من الرؤوس الساخنة في إدارة البيت الأبيض والبنتاغون، التي تعمل على النفخ في النيران لتحقيق منافع جيوسياسية، ما يجعل بعض المحللين في الولايات المتحدة يرون أن الضربة الجديدة لسوريا ستتم عاجلاً أم آجلاً، خصوصاً في ظل الحشد المستمر لصواريخ «توماهوك» في البحر المتوسط!
Leave a Reply