مع استمرار تعثر تشكيل الحكومة
مازال التعثر، سمة جهود الرئيس سعد الحريري في تشكيل حكومته الثانية في عهد الرئيس ميشال عون الذي يريدها حكومة العهد الأولى، لأنها ستنبثق عن الانتخابات النيابية، التي أقيمت بعد انقطاع لتصحّح التمثيل مع اعتماد قانون النسبية الذي أعاد تكوين الكتل النيابية مع تعديلات طفيفة نجمت عن توزيع الدوائر طائفياً، ثمّ الاعتماد على الصوت التفضيلي.
معركة الصلاحيات
وفي خضم مفاوضات تشكيل الحكومة، ظهرت عقد الأحجام في التمثيل على المستوى العددي كما الطائفي، حيث أوقف رئيس الجمهورية صيغتين وضعهما الرئيس المكلّف أمامه للتشاور بهما وفق ما نصّ الدستور، لكن الرئيس ميشال عون كان يعيدهما مبدياً ملاحظاته على حجم التمثيل وفقدان المعيار الواحد، إذ كانت الصيغة الحكومية الأخيرة التي قدمها الحريري قبل نحو أكثر من أسبوعين، تعطي «القوات اللبنانية» حجماً وحقائب أكبر من كتلتها النيابية، وفرض أحادية التمثيل الدرزي بـ«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وعدم توزير شخصية سنّيّة من خارج «كتلة المستقبل» التي تضم 17 نائباً سنّيّاً، في حين أن عشرة نواب سُنّة موجودون خارجها، وأن ستة منهم أنشأوا تكتلاً لهم باسم «اللقاء النيابي التشاوري» مطالبين بتوزير أحدهم، وهم: عبدالرحيم مراد، فيصل كرامي، قاسم هاشم، عدنان طرابلسي، جهاد الصمد ووليد سكرية.
وعندما رفض الرئيس عون، الصيغتين الحكوميّتين للحريري، تمّ تحريك موضوع الصلاحيات لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة المكلّف، فعقد رؤساء الحكومات السابقون وهم: نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام، اجتماعات حذّروا في بيانات لهم، المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة السني، وأيّدهم مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان وشخصيات سنّيّة سياسية ودينية، فأعادوا لبنان إلى مرحلة السبعينات من القرن الماضي، عندما كانت الطائفة السنّيّة تطالب بالمشاركة في الحكم مع رئيس الجمهورية الذي كان يسمي رئيس الحكومة ويعيّن الوزراء، إلا أن اتفاق الطائف الذي أصبح دستوراً في التسعينات انتزع من رئيس الجمهورية هذه الصلاحيات، وهو برفضه تشكيلتين للرئيس المكلّف اعتبرته أطراف سياسية ودينية سنّيّة العودة إلى مرحلة ما قبل الطائف، فردّ وزير العدل سليم جريصاتي بدراسة قانونية تتحدّث عن أن المهلة ليست مفتوحة للرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، بل يمكن سحب التكليف منه، مما أشعل معركة حول الصلاحيات، عادت فبردت، بعد أن رأى الحريري أن ليس من مصلحة له في ذلك.
تطبيق اتفاق الطائف
وكالعادة، مع فتح موضوع الصلاحيات، يبرز موضوع تطبيق اتفاق الطائف، الذي كان الرئيس عون معارضاً له. إذ أعلن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط عن ضرورة البدء بتطبيق ما ورد في الطائف لجهة قانون الانتخاب، والذي ينص على إصدار قانون خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس شيوخ تتمثّل فيه الطوائف، وتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وقد شكّل الإعلان الجنبلاطي استنفاراً طائفياً أشعل «جبهات قتال» على مواقع التواصل الاجتماعي بين أنصار «التيار الوطني الحر» و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وكاد التوتر العالي بين الطرفين أن يؤجج الأرض، وينسف المصالحة في الجبل التي حصلت عام 2002 برعاية البطريرك الماروني نصرالله صفير، ليتمّ سريعاً سحب الفتيل قبل الانفجار حيث قامت عملية تطهير للموظفين في الوزارات والإدارات التي تخضع لوزراء الفصيلين السياسيين، وكل ذلك على خلفية التمثيل الدرزي في الحكومة، الذي يطالب الاشتراكي باحتكاره، فيما يرفضه رئيس الجمهورية ويطالب بتمثيل درزي خارج الجنبلاطية لحماية ميثاقية الحكومة في حال قرر جنبلاط إقالة وزرائه.
هل انتهى مفعول الطائف؟
لقد مضى على اتفاق الطائف نحو ثلاثين عاماً، لم ينفّذ منه أي بند إصلاحي مرتبط بتطوير النظام السياسي السابق الذي أرساه الفرنسيون والذي تسبّب بثلاثة حروب أهلية في العام 1958 و1975 و1983، ولم يعد النظام الطائفي السابق قادراً على تأمين العيش المشترك بين اللبنانيين كما جاء في مقدمة الدستور، وقد جاء اتفاق الطائف ليرسم خارطة طريق لإخراج النظام السياسي من القيود الطائفية، لكن اللبنانيين من خلال قياداتهم لم يلتزموا تحقيق الإصلاح ولم ينفّذوا من الطائف إلا بعض البنود، وبالتالي لا يمكن الحكم عليه فيما إذا كان مازال صالحاً لتطوير النظام السياسي أم أنه قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، لاسيما في ظل ارتفاع حدة الخطاب الطائفي لجهة المطالبة بحقوق الطوائف، سواء كانت مسيحية أو سنّيّة أو شيعية أو درزية
فاليوم، يدور الحديث عن «عقد طائفية»، وهو ما يؤكّد تآكل النظام السياسي القائم، رغم أن الطائف مازال قابلاً للحياة والعمل به، بتنفيذ بنوده، التي جاءت حصيلة حوارات داخلية تمّت في مؤتمرات ولجان وتبلورت في صيغة إصلاحية، عبّرت عنها وثيقة الوفاق الوطني التي ركّزت على الخروج من الطائفية من خلال قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وإلغاء طائفية الوظيفة، مع المحافظة على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وعدم الاعتماد على الطائفية بل السعي لاجتثاثها من خلال هيئة وطنية.
مؤتمر تأسيسي
وكانت صدرت دعوات إلى عقد مؤتمر تأسيسي يبحث في ما حصل بعد الطائف، والثغرات التي ظهرت في التطبيق، ومنها ما يتعلق بصلاحيات السلطات، إضافة إلى موضوع تكوين السلطة، وكان أول الداعين إلى مؤتمر تأسيسي هو «حزب الله» الذي طرح صيغة المثالثة ضمن المناصفة، لتصبح الطائفة الشيعية شريكاً ثالثاً في السلطة، وهو ما اصطلح على تسميته بـ «الترويكا» في عهد الرئيس الياس الهراوي. ويطالب الشيعة بأن تكون وزارة المالية بعهدة الطائفة الشيعية لضمان التوقيع الرابع لوزير المال على القوانين والمراسيم، إلا أن فكرة المؤتمر التأسيسي تراجعت لدى «حزب الله»، لأن الظروف ليست ناضجة لمثل هذا الطرح، إلا أن النائب طلال إرسلان أعاد إحياءها وطالب بها، «لأن الطائف استنفد مهمته، مع التقصير لا بل العجز عن تطبيقه».
عقد اجتماعي
وإذا كان «حزب الله» طالب بمؤتمر تأسيسي فإن البطريرك الماروني بشارة الراعي دعا إلى «عقد اجتماعي جديد» بين اللبنانيين، بعد أن أظهر اتفاق الطائف إخفاقاً في تطبيقه ووجود ثغرات فيه.
لكن دعوة الراعي، وُضعت في الثلاجة بدورها، لأن فتح مسألة تعديل الدستور، قد يُدخل لبنان في المجهول، إذا لم يكن الوضع الداخلي اللبناني حاضراً ومؤهلاً لإعادة النظر في الدستور، مع ظهور ثغرات فيه، إضافة إلى البحث في بنود اتفاق الطائف، وما إذا كانت صالحة للعمل ببعضها، ووضعها موضع التنفيذ، لاسيما في مسألة إلغاء االطائفية السياسية.
أي لبنان نريد؟
كان السؤال يُطرح دائماً، أي لبنان نريد؟ ولم يحصل اللبنانيون على جواب حول صيغة النظام السياسي الذي يؤمّن وجود دولتهم المدنية، والذي لا ينص الدستور على الطائفية سوى بالمادة 95 منه، والتي اعتبرتها «حالة مؤقتة» ويخرج منها اللبنانيون مع وصولهم إلى صحوة وطنية، وقد حصلوا عليها مع النتائج المميتة والمدمرة للحرب التي قتلت البشر ودمّرت الحجر، إلا أنه وبعد ثلاثة عقود من اتفاق الطائف، فإن الوضع السياسي نحو الانحدار، لا بل إن الطائفية تعشش في النفوس، قبل النصوص، حيث كان السؤال الدائم، هل تُزال الطائفية من النصوص قبل النفوس أو بالعكس، ولم يأتِ الجواب إلا بعد أن أكّد الطائف على إلغاء الطائفية من النصوص والنفوس معاً. فهل مازال اتفاق الطائف صالحاً، أم انتهت مدته؟
هذا هو السؤال الأهم مع استمرار تعثر تشكيل الحكومة.
Leave a Reply