د. عبد الإله الصائغ
منذ القدم والناس يرددون في الجزع والفزع مثالاً يقول: ذهب الناس وبقي النسناس!
والنسناس خرافة تحيل إلى دابة يشبهونها بالقرد وزُعِم أنها إنسان ممسوخ. ومنطق المثل أن الشرفاء والعقلاء تركوا الأمكنة للمسوخ والجهلاء. والنسناس معادل دلالي للبشر القطيع، بشر السذاجة أو البشر الأذى ونحن من حيث واقع التجربة لا نقبل بهذا القول على علّاته فمازال الناسُ الناسُ كُثراً واما الناس النسناس الملتاثون بالجهالة أو السفالة نُزْراً لأنهم استثناء وبعيداً عن التفاؤل الأعمى نقول إن النجباء ضمن واقع التجربة أكثر من السفلة عددا والعارفين أوسع من الجهلة مساحة والوطنيين أزيد من الخونة مدداً..
لكن ثمة ثقافة القطيع التي تحدثنا عنها قبلا ثقافة من يردد القول دون تحليل. ثقافة القطيع التي جعلت العديد من الناس قانطين يائيسين، دون الالتفات إلى الجوانب المضيئة في الحياة المعاصرة. هناك معتقدون أن إنسان اليوم أسوأ بكثير من إنسان الأمس وأن البشر في الماضي كانوا أفضل بما لايقاس من بشر زماننا هذا! وحين تطلب منهم البراهين يجلبون لك أقاويل مغرقة في السذاجة: الزواج كان سهلاً والإنجاب أسهل والعلاقات بين الناس متينة وبخاصة صلة الرحم والتواصل مع الجيران بنقاء وسخاء وشعارهم القناعة كنز لا يفنى… هو الحنين إلى السلف ولو كان تلفاً! فحين نقرأ كتب العرب الأولين تاريخاً وأمثالا ودراسات نجد أن الشوق إلى الماضي طبيعة فيهم وكانت الناس تتعاطف مع من قال:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فهل أن الأقدمين كانوا أفضل من الأحدثين؟ وهل جائز في حدود العقل التعميم في التقويم؟
نعم، إن سقوط ذبابة على الطعام يسبب عزوفاً في الأغلب عن تناول الطعام:
إذا وقع الذباب على طعام
رفعت يدي ونفسي تشتهيهِ
نعم، إذا ظهر عميل يتخامر مع الأجنبي وقد شكل حزباً موبوءاً وخدع رهطاً من الطامعين أو المغفلين ظن البعض أن ذلك ظاهرة قابلة للاستنساخ ظاهرة تنطبق على الكل في مطلق الزمكان وأن ذلك يحجب وجود أصيل يشكل حزباً معافى وقد ألغى من قاموسه مصطلح العمالة.
قد تخدع بعض الناس بعض الوقت ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت. فأنت ترى أن الرقيّ طبع في الإنسان السليم ولهذا صار عدد العلماء الذين ينتفع بعلومهم فوق طاقة الحصر وها نحن نهنأ بالكهرباء والسيارة والطائرة… نهنأ بالقفزات العلمية في الطب والأنواء والفيزياء في الحاسوب والتواصل الاجتماعي… نهنأ اليوم بما حرم منه أجدادنا الذين كانوا يقطعون الطريق على الناقة إلى بعض المدن بشهور مثلاً عدا عن الأخطار المحيقة بهم. أجدادنا المحرومون عهدئذ من فتوحات العلم ومنجزات العقل البشري فكان المرض المعدي يستحيل وباءً قادراً على أن يمحق مدينة كاملة فيفنيها خلال أسبوع!
العقلاء حين يقوِّمون واقعاً حدث في الغابر من الزمان أو يحدث الآن، يتركون موضعاً لمفردة «لكن»، جرياً مع قولنا لكل قاعدة استثناء.
وطاقة «لكن» تحيلنا إلى أن ذلك لا يمنع –وفق العقل– وجود الناس النسناس الذين يستعملون الكهرباء في التعذيب، كما لا يمنع المطبوعين على الأذى من تفخيخ السيارة والطائرة للقتل العشوائي وحصد الأرواح دون تمييز. الرقي في الكيمياء جعل بعض أساطين التعذيب وبخاصة في البلدان المتخلفة ذات الأنظمة الشمولية يستعملون حامض النترك في الأحواض لتذويب الخصوم…
الأمثلة كثيرة ولكنها لن توقف العلماء عن ممارسة دورهم الريادي العظيم في إنقاذ البشرية واختزال معاناتها من المرض والعجز والوهن.
الرقي طبع الإنسان المتطلع وهل ثمة رقي بلغه الإنسان أبلغ من وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، ففي خلال دقائق وربما ثوان يصلك بريد من الآخر أو يصل الآخر بريدك. لم تعد الصحافة وحدها مسؤولة عن توصيل الخبر ولا الفضائيات وحدها. لقد غير الانترنت والحاسوب قوائم كثيرة من القناعات والجهالات، فإذا استغل المراهقون أو المسكونون بالشر وسائل التواصل الاجتماعي في أمور تخدش الحياء أو تخدش النزاهة، عبر التسقيط كإظهار الأصيل بمظهر الدخيل والمواطن المخلص بصورة الذي يبيع وطنه لقاء المال، أو في التهليل والتدجيل كمنح الدخيل العميل مواصفات المخلص النبيل والجاهل سمات العاقل، ذلك لا يعني أن البشرية ستتوقف عن استعمال هذا المنجز البشري المعجز ولسوف يواصل العلماء تطوير علوم الانترنت والحاسوب كما يواصل علماء الطب أبحاثهم في الوصول إلى أدوية للشفاء من الامراض المستعصية.
والسؤال هو كيف نتعامل مع قناعة البعض منا بمقولة ذهب الناس وبقي النسناس، ونحن نتعامل يومياً مع أناس يتمتعون بمواصفات العقلاء والحكماء، يجعلون الواجبات والحقوق في ميزان عادل دقيق، يفضلون الخسارة المادية مع الصدق على الربح المادي مع الكذب، أناس موجودون بيننا من لحم ودم حقاً يساعدون المحتاج ويدعمون الضعيف ويؤازرون المخلص، أناس يعرفون حدود العقل ويميزونها عن حدود العاطفة. لنقترب أكثر من الناس الذين نعايشهم –تحديداً الأميركان العرب أو العرب الأميركان، لا فرق– ولنرى كيف تعامل هؤلاء مع القوانين الأميركية بتقدير كاف فيسهمون في الحياة العامة ويعملون ويكدحون ويدفعون الضرائب… لكن، النسناس أو السيئون موجودون يطرحون الأمثلة السلبية فيلتفون على القانون ويتهربون من الواجبات المفروضة عليهم ويتشبثون بالحقوق التي يستحقونها بما يشكل نموذجاً مشيناً بين ظهرانينا، نَفَرٌ جعل الدين مهارة في الكسب أو تجارة من الكذب ومع ذلك بقي ذلك النفر محدوداً منبوذاً.
لنركّز الخاتمة على إعصار فلورنسا الذي ضرب سواحل شرق أميركا الأسبوع الماضي، وكيف تعاطف الأميركيون أصلاء ومهاجرين جميعاً مع اخوتهم المنكوبين بالدعاء والتبرع كي يحمي الله أهالي المناطق المنكوبة، كان الجميع في مشاعرهم أميركيين بامتياز متعاطفين مع ضحايا الأعاصير الصادمة والأمطار الساجمة… فتحوا بيوتهم واستقبلوا المنكوبين بكل الحب والحفاوة وآثروهم على انفسهم بالغذاء والكساء، ومانقوله ليس فرضية بل هو واقع ملموس لكن ذلك لا يمنع ولن يمنع وجود الناس النسناس الذين ينظرون إلى الكارثة دون مبالاة إنسانية (منهم من يتأهب للنهب أو لشراء السيارات المتضررة بالفيضانات وخداع المستهلكين) فهل يضير النفر القليل السيء من الناس بالكمّ الكبير للطيبين المتعاطفين؟
الإنسان المؤمن بالسلام والتعايش والتسامح موجود، وبكثرة… والنسناس الكافر بقدرة الإنسان على الانسجام دون أن يعكر صفوه اللسان والمكان والقومية والدين والمذهب، الذين يشتمون الزمان ويزعمون أنه زمن الفساد والدعارة والسلطات الغاشمة… والزمان محايدٌ، جارٍ لا يتوقف، وإذا كان ولابد من القول فإن الزمان أبديٌ يجري نحو الخير، وإنما الشريرون هم الذين يحملونه معاني شرورهم.
قال الشاعر:
يقولون الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان
Leave a Reply