بقلم: د. محمد الصائغ
بدأ ماهر بالتعرف على زملائه الجدد في دائرته التي باشر بها حديثاً: إحسان، الشاب الذي لا يمل ولا يكل من إطلاق التعليقات والسخرية حول كل شاردة وواردة، مثيراً جوّاً من الأريحية والدعابة بين محيطيه. فلاح، الشاب الأسمر المرح والثرثار في آنٍ معاً، يمازح زملاءه وينسج مقالبه عليهم. حنان، الشابة الشقراء المتوقدة نشاطاً والتي يروق لها هي الأخرى مشاكسة فلاح. أمّا سوسن ذات العينين الزرقاوين، الأنيقة الهادئة صديقة حنان، فهي قليلة الكلام ذات إنصاتٍ للآخرين. وأما إشراق، المولعة بالتفنن في الطبخ، فهي ترفد زملاءها كل صباح بأكلة جديدة راغبةً على الدوام بسماع مديحهم لما صنعت يداها، فيما كان سيف، رئيس القسم، يبدي سروره لانسجام موظفيه مع بعضهم وقيامهم بواجباتهم على أتم وجه.
مع مرور الأيام جذبته حنان بخفة دمها وشقاوتها المحببة وحسن محياها، وكثيراً ما كانا ينتحيان جانباً عن زملائهما ليقفا أثناء استراحتهما متكئين على جدار من البناية التي يعملان داخلها حيث تمتدّ أمامها فسحة واسعة مغطاة بالثيل مسيجة بشجيرات الياس والورود المتناثرة حول العشب الأخضر، يتحادثان ويبديان آراءهما حول كل ما يصادفانه، فيما كانت سوسن تنضم إليهما أحياناً.
حنان وسوسن صديقتان حميمتان في أواسط العشرينات من العمر بينما هو في أواخرها. توطدت علاقته بحنان أكثر فأكثر وأخذت تروي له جوانب من حياتها الشخصية ووضعها العائلي حتى أخبرته مرّةً بأنها أوفدتْ إلى ألمانيا في حلقة دراسية لمدة عام، وهناك تعرفت على شاب عربي فربط الحبُّ بينهما حتى تطور الأمر إلى ماهو أكثر من الحب، استرعت العبارة الأخيرة انتباهه فتساءل: وهل حصل شيء أبعد من هذا؟ فتنهدت وأجابته بألم: نعم حصل، فأسف لذلك وأبدى نوعاً من المواساة لها.
شهد جانبُ الجدار أكثر لقاءاتهما حتى أطلقوا عليه اسم «حائط الاعتراف» لأنها اعترفت له بما حصل لها في ألمانيا إضافةً إلى شؤون أخرى، فتحول الأمر بينهما إلى علاقة عاطفية حتّى شرعا يخرجان سويةً بعد انتهاء الدوام بمفردهما أو يتواعدان مساءً لارتياد أحد الأماكن العامة أو يتناولان الطعام في أحد المطاعم القريبة، وأحياناً تدعوهما سوسن إلى بيتها وهي على علم بعلاقتهما حيث تتمتع بثقة والديها اللذين لا يمانعان من فسح المجال لثلاثتهم بالجلوس في غرفة الاستقبال الأنيقة ذات الأثاث الفاخر.
بعد عودتهما من أحد اللقاءات صادف مرور سيارة فارهة إلى جانب سيارته فقالت حنان: أنظر ماهر إلى هذا الشاب كم هو وسيم.. ما أسعد الفتاة التي ترتبط به، امتعض ماهر من كلامها غير أنه أراد أن لا يبدو عليه الضعف وبوادر الغيرة من شخص آخر، فأبدى عدم اكتراثه بما قالت وواصل قيادته السيارة وكأنه لم يسمع شيئاً.
في اليوم التالي عاتبته بلهجة حادّة وفسرت كلامها بالأمس حين قالت: رغبتُ باختباركَ عندما تغزلتُ بشاب آخر وأنا بجانبك لأعرف مدى غيرتكَ علَيَّ ولكنكَ لم تبدِ أي امتعاضٍ إزاء ذلك فتخلّفتَ في الاختبار. انزعج من كلامها وحدجها بنظرة حادّة وقال: وهل كرامتي تسمح لي بأن أغار من شخص لم يكن أفضلَ مني وإذا رأيته كذلك فالأمر يعود لكِ، أشاعت كلماته جوّاً من التوتر بينهما استمر للحظات أنهتها حنان بلمسة اعتذار تفوهت بها شفتاها وهي تمرّر بأناملها على يدي ماهر معبّرةً عن عمق وانسجام علاقتهما.
نسجت لقاءاته المتكررة بحنان في بيت سوسن صداقة ثقافية وفكرية بوالد سوسن الذي كان ضليعاً بالأدب والتاريخ، حيث كانا ينخرطان في نقاشات طويلة عن تفاصيل تاريخية تارةً وأدبية سياسية تارةً أخرى.. تطورت تلك الأحاديث إلى لقاءات لاحقة ضمتهما معاً بدون وجود حنان، وكانت سوسن تقوم بخدمتهما فتقدم لهما الشاي والقهوة أو الحلويات وتستمع إليهما وتناقش بعض الافكار أحياناً.
***
بغريزة المرأة لاحظت حنان اهتمام سوسن بماهر مما عزز شكوكها بأن شيئاً أكثر من الصداقة يربطهما، وبمرور الوقت عصفت الظنون بحنان وأخذت تلمّح بذلك تارة فتوجّه لماهر اللوم لزيارته والد سوسن لوحده وبدون علمها تارةً أخرى… لم ينفع تبريره لها وبأنه لم يفكر بما يجول في خاطرها… بأن يغيّر مسار علاقتهما التي بدأت تتعثر تحت طواحين الإحساس بالخيانة وممّن؟.. من أعزّ صديقاتها، سوسن!
مرّت الأسابيع ثقيلة باهتة، وهي تحمل خبر نقل سوسن إلى أحد فروع الشركة في إحدى القرى النائية بوشاية وتدبير من حنان، تلقى الجميع الخبر بعفوية عدا ماهر وسوسن اللذين تحسّسا خسارتهما. لملمت سوسن أغراضها وودعت الجميع بعيون دامعة وهي تغادر الدائرة التي قضت فيها أياما حلوة مع زملائها الذين اصطفوا لتوديعها مفصحين عن تمنياتهم وأمنياتهم بأن يكون لها المكان الجديد أفضل. كانت سوسن تتمتم: «لن يكون أفضل، أشعر أنّ هذا المكتب بيتي وأنتم أهلي…». لم تغب سوسن عن بال ماهر، كان يخزه مكتبها الفارغ من حضورها البهي وابتسامتها التي كانت تضيء المكان حتى في لقائهما الأخير، حيث انتدب للتفتيش في فرع الشركة الذي تعمل فيه سوسن تلمس اللهفة في ترحابها به، ولم تتوان عن أن تتمتم قائلة: أنت السبب في كل ما جرى لي! تفاجأ ماهر وسألها مستغرباً: أنا السبب؟ كيف؟ وما علاقتي بما حصل؟
قالت بامتعاض: إنها حنان.. تصوّرت أنّ ثمةَ علاقة تربطني بك فسعت إلى إبعادي عنك.
وقعت كلماتها في نفسه وقع الصاعقة فكسرت ما تبقى من ود يربطه بحنان… فيما توطدت علاقته بعائلة سوسن وكثرت زياراته لوالد سوسن بناءً على إلحاح الأخير ونشأت صداقة وطيدة مع سوسن بعلم عائلتها التي لم تجد غضاضةً في تلك العلاقة، فكان يمر عليها ويلتقطها من البيت حيث يقضيان وقتاً ليس بالقليل ويتسامران في النادي الرياضي المشترِك فيه.
كان ماهر معجباً بها وبرقة حديثها ورقيها فضلاً عن جمالها وبشرتها الخمرية التي تغطي جسداً أهيف يتوّجه شعرٌ أسود فاحم ينسدل على كتفيها ويغطي أحياناً إحدى عينيها الواسعتين فتزيحه بحركة انثوية محببة وحديثها الهادئ، لذا كان إعجابه بها يفوق حبه لها فكانا يتبادلان المشاعر والعواطف والصمت أحياناً، فيكتفيان بالتأمل والتطلع أحدهما إلى الآخر دون كلام.
وفجأة ظهر رحيم وهو شاب مغترب في السويد كان يذوب وجَدَاً بسوسن ومن طرف واحد عندما كانا زميلَين في الكلية، واستمر يخطب ودّها بعد تخرجهما فكانت تصده، وكلما حاول التقرب منها عبر رسائله إليها من الخارج لم تكن تتجاوب معه لعدم ميلها إليه، وتدعوه إلى عدم التفكير بها أو الكتابة إليها ولكنه كان مصرّاً في حبه حيث كان يكرر الكتابة إليها مدغدغاً أحاسيسها بكلام مؤثر لكي يلين قلبها، وكانت سوسن تطلع ماهراً على كل رسالة ترد إليها من رحيم، لكنها أخيراً رضخت لتوسّلاته وكانت المفاجاة حين جاء إلى العراق وعقد قرانه عليها وسافراً معاً.
في لقاء الوداع بينهما دار حوار أخير:
– ماهر: كيف وجدت المهرة فارسها؟
– سوسن: المهرة كما عهدتها ولكن الخيّال لا يليق بها.
– ماهر: إذن لماذا قبلتِ به بعد رفضكِ له لمدى سنوات؟
– سوسن: خشيتُ أن يفوتني القطار وأبقى في الانتظار على رصيف العمر.
من دار الغربة كتبت له بعد التحاقها بزوجها: «يبقى صوتكَ الذي طالما داعب أسماعي أهمَّ ما أفتقده الآن، لقد تطورت علاقتنا في العراق قبل زواجي، من الصداقة إلى أبعد من ذلك ِأما الآن فلنعيدها إلى الصداقة المجردة وأنا بانتظار ما تقوله عبر رسائلك».
غير أنّ ماهراً اتخذ جانب الصمت مفضلاً أن يسدل الستار على تلك العلاقة ليمنح نفسه فرصة الانطلاق نحو حياة جديدة خالية من تعقيدات الأمزجة.
Leave a Reply