مع استمرار تعثر تشكيل الحكومة
بات تشكيل الحكومة في لبنان ضرورة وحاجة ماسة لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتفاقم من خطر الانهيار، وهو مطلب داخلي وخارجي يردده كل المسؤولين اللبنانيين ومراكز الدراسات والمرجعيات المالية والاقتصادية اللبنانية والعالمية، دون الوصول إلى حد التلميح بالانهيار، أو تأثر سعر صرف الليرة اللبنانية، الذي يؤكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأنه مستقر ومضمون مالياً.
متى الحكومة
خمسة أشهر قد مرّت على تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة، ولم يفلح بعد، بالرغم من أنه حدّد مواعيد لصدور مراسيمها بالتشاور مع رئيس الجمهورية، إلا أن عراقيل وعُقداً وقفت بوجهها فتأخّرت، مما فاقم من المصاعب الاقتصادية والمعيشية، ودفعت برجال المال والأعمال اللبنانيين، وفي مقدمهم الهيئات الاقتصادية، إلى رفع الصوت بوجه الطبقة السياسية للإسراع في تشكيل الحكومة قبل سقوط الهيكل على الجميع، وقد خرج الرئيس الحريري من لقائه الرئيس عون متفائلاً بأن الحكومة قد تولد خلال عشرة أيام (نهاية الأسبوع الحالي) لأن الوضع الاقتصادي لم يعد يحتمل المزيد من التأخير، إلا أن تفاؤله سرعان ما بدّده مؤتمر صحفي لوزير الخارجية جبران باسيل الذي اعترض على تمثيل حزب «القوات اللبنانية»، ليعود رئيس مجلس النواب نبيه برّي مؤكداً بأن تشكيل الحكومة عاد إلى نقطة الصفر، في الوقت الذي كان رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط يبدي مرونة، في موقعه من تشكيل الحكومة وحصته فيها والتي كان يصر على أن تتضمن ثلاثة وزراء دروز، ليفتح باب التفاوض على مقعدين درزيين وثالث مقعد من طائفة أخرى قد يكون مسيحياً وربما كاثوليكياً.
وبات يُنظر على نطاق واسع إلى الخصومة بين الحزبين المسيحيين الرئيسيين– «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»– على أنها العقبة الرئيسية في طريق التوصل إلى اتفاق.
الوضع الاقتصادي
وبين التفاؤل والتشاؤم، والمواعيد التي ضُربت لتشكيل الحكومة، يبقى الوضع الاقتصادي في الواجهة، لأنه يطال كل اللبنانيين والمقيمين في لبنان، مع التقارير الاقتصادية والمالية غير المشجعة للواقع الاقتصادي، إذ ارتفع التضخم إلى نسبة 6.29 بالمئة في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2018، بارتفاع حوالي 2 بالمئة عن العام 2017، ليسجل بذلك ثاني أعلى معدل منذ عام 2012 حين سجل نسبة 9.40 بالمئة.
ويعزو خبراء اقتصاديون وماليون ارتفاع معدل التضخم إلى الأسباب الآتية:
1– ارتفاع أسعار النفط العالمية بنسبة 38.1 بالمئة، علماً بأن النفط يشكّل حوالي 22 بالمئة من مجموع واردات لبنان.
2– سلسلة الرتب والرواتب والتي تبيّن أن كلفتها أعلى بكثير من 800 مليون دولار، والتي إرتفعت إلى حوالي مليار و500 مليون دولار، بدخول قطاعات أخرى عليها.
3– إرتفاع الطلب في القطاع العام وزيادة كلفة التعليم في القطاع الخاص بسبب السلسلة.
4– تراجع معدل صرف الدولار مقابل سلة من العملات الأجنبية بنسبة 5.96 بالمئة في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018، وبما أن سعر الليرة مثبت تجاه الدولار، زادت كلفة الواردات المقيّمة بالدولار.
العجز بالمدفوعات
وإضافة إلى أسباب التضخم، فإن ميزان المدفوعات سجل عجزاً قيمته 13.3 مليار دولار منذ إندلاع الأزمة السورية في عام 2011، بعد أن كان قد سجّل فائضاً بلغ 19.5 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من عام 2006 وحتى العام 2010، في وقت سجل الميزان عجزاً حتى الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري بقيمة 3.2 مليار دولار، فيما بلغت قيمة العجز 1.8 مليار دولار طوال عام 2017.
ويدل التضخم والعجز إلى أن لبنان بحاجة إلى حالة طوارئ اقتصادية، قبل أن يلحق بدول أخرى أصابتها أزمات مالية، وركود في النمو، وهذا يتوقف على تشكيل حكومة يكون لديها برنامج إصلاحي للاقتصاد، وهذا ما طلبه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي و«مؤتمر سيدر» أخيراً.
قلق على مؤتمر سيدر
وقد بدأ القلق على مؤتمر سيدر الذي انعقد في باريس في شهر نيسان (أبريل) الماضي، لدعم لبنان، من أن تطير القروض والمساعدات التي قُدّمت فيه، بسبب تأخر تشكيل الحكومة، التي يقع عليها أن تنفذ ما طُلب منها في المؤتمر الذي ليس الأول الذي يعقد لمساعدة لبنان، إذ سبقته في عقود سابقة مؤتمرات في واشنطن تحت اسم «أصدقاء لبنان» عام 1996، ثم في باريس عقدت ثلاثة مؤتمرات الأول والثاني والثالث لدعم لبنان، الذي لم يساعد نفسه، وباتت الدول تشكك في إمكانية تقدّمه نحو إصلاح اقتصاده الذي تحكمه «كارتلات مصرفية» وأخرى «عقارية»، إضافة إلى تحكم طبقة سياسية في مقدرات البلاد، وتقاسمها مغانم وحصصاً، فارتفعت نسبة الفساد، حيث يقع لبنان في مرتبة متقدمة بقائمة الفساد، وتقفز فوق الدول المتخلفة في اقتصادها وبُناها التحتية.
الإصلاح الاقتصادي
منذ الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أيار (مايو)، لم يتمكن الساسة من الاتفاق على حكومة يمكنها العمل على إصلاحات اقتصادية ضرورية، رغم النصائح الدولية للبنان، ومنها ما جرى في «مؤتمر سيدر»، بضرورة تحقيق إصلاح اقتصادي، لأن من دونه لا تنفع القروض والهبات، ويكون لبنان أمام سلة مثقوبة تهرب المياه ولا تجمعه ولا بدّ من البدء بإصلاحات بنيوية في النظام الاقتصادي اللبناني، كما في النظام السياسي الذي هو أساس الداء والبلاء، لأنه مرتكز على الطائفية التي تجذّرت مع المذهبية، وقد دعا إتفاق الطائف إلى إلغائها، إذ طالب «مؤتمر سيدر» لبنان بتنفيذ توصياته والتي تقوم على استثمار 11.8 مليار دولار من خلال رفع مستوى الاستثمار في القطاعين العام والخاص، مع ضمان الاستقرار المالي والاقتصادي، وإجراء إصلاحات في الإدارة من خلال تحديث القطاع العام بشقيه الإداري والمالي، إذ تمّ التركيز في «مؤتمر سيدر» على ترشيد الإنفاق، واتّباع سياسة تقشّف، وتخفيض كلفة القطاع العام الذي يفيض بالموظفين بحيث بلغت الرواتب نحو 6.1 مليار دولار، يضاف إليها رواتب المتقاعدين بحوالي 1.8 مليار دولار، أي ما يوازي 49 بالمئة من الموازنة العامة، التي يقتطع منها نحو 5 مليار دولار، أي ما يوازي 35 بالمئة منها لخدمة الدين العام الذي ارتفع إلى 84 مليار دولار، وهو يزيد كل عام بسبب خدمة الدين، علماً بأن لبنان يعاني من ثالث أكبر دين عام في العالم قياساً إلى الناتج المحلي.
الانفجار المؤجّل
سيتيح تشكيل حكومة جديدة للبنان بدء تعديلات مالية مهمة يقول صندوق النقد الدولي إنها ضرورية لتحسين قدرته على تحمل الدين. ومن المرجح أن يؤدي أيضاً إلى ضخ استثمارات في البنية التحتية بقيمة تتجاوز 11 مليار دولار تم التعهد بها خلال «مؤتمر سيدر» في باريس.
وقال الحريري «نخطئ إذا كنّا نعتقد أن العالم سينتظرنا لإنقاذ أنفسنا. هناك قروض لا تنتظر».
فتأزّم الوضع الاقتصادي، وعدم الاستقرار السياسي بسبب التأخير في تشكيل الحكومة، فإن الأوضاع المالية والاقتصادية تضغط على المواطنين الذين يئنون من ارتفاع غلاء المعيشة، وفقدان رواتبهم للقدرة الشرائية، لاسيما مَن هم في القطاع الخاص الذي لم تلحقه سلسلة الرتب والرواتب التي استفاد منها القطاع العام فقط، مما خلق هوة بين المواطنين، وتمتنع المؤسسات والشركات الخاصة عن منح زيادات للموظفين والعاملين فيها على رواتبهم نتيجة الغلاء، وتهدّدهم بالصرف من العمل، وهو ما بدأت تلجأ إليه مؤسسات من صرف عاملين فيها كي لا تقفل، حيث تعاني كل قطاعات الإنتاج والخدمات من سوء الوضع الاقتصادي والمالي، مما رتّب على البعض الإقفال، وهذا ما أصاب قطاع الصحافة المكتوبة والإعلام، فأقفلت دار الصياد العريقة بعد 75 عاماً من العمل، وكانت سبقتها جريدة «السفير»، وهو ما يدل على عمق الأزمة الاقتصادية التي تهدّد بحصول انفجار اجتماعي مع تفاقم الأوضاع المعيشية، في ظل استئثار 1 بالمئة من الأفراد بـ25 بالمئة من الدخل في لبنان، مما يخلق هوة بين طبقتين الأولى فائقة الثراء، والثانية فقيرة جداً، مع اضمحلال الطبقة الوسطى التي تشكّل الأمان الاجتماعي لأي نظام سياسي، والتي انحصرت في فئة لا تزيد عن 4 بالمئة من اللبنانيين، في حين شكّلت في منتصف القرن الماضي نسبة 45 بالمئة من المجتمع اللبناني.
الأوضاع الاجتماعية ستزداد تفاقماً مع غياب فرص العمل إذ أن وظيفة واحدة تتأمّن لكل ستة وافدين إلى سوق العمل، مما يؤدي إلى هجرة الشباب وارتفاع نسبة البطالة التي وصلت إلى 35 بالمئة، والفقر لامس 40 بالمئة.
فهل تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى انفجار اجتماعي مؤجل إلى حين؟
Leave a Reply