اختفاء خاشقجي
لم يكن ينقص المشهد الإقليمي لكي يزداد تعقيداً سوى حادثة مريبة كتلك التي أدت إلى اختفاء جمال خاشقجي، الغامض في تركيا.
الصحافي السعودي الشهير، ذو العلاقات المتشعبة والمثيرة للتساؤلات والتكهنات داخل مملكة آل سعود وخارجها، لاسيما في الولايات المتحدة، بات عنواناً لقضية خطيرة من شأنها أن تشرّع الأبواب أمام احتمالات أكثر خطورة في ظل مرحلة تحوّلات تبتعد يوماً بعد آخر عن قواعد اللعبة التقليدية في الشرق الأوسط.
اختفاء صحافي أو تصفيته، ليس أمراً استثنائياً في عالمنا، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بأنظمة سياسية لا تعترف كاتالوغات الحكم فيها بشرعية الصحافة، إلا تلك «المطبّلة» للبلاط الملكي أو الأميري أو الجمهوري، حيث يحظى «الصحافي» بمكانة مرموقة في دوائر السلطة الحاكمة، كما كانت الحال مع خاشقجي نفسه، يوم كان بوقاً مدافعاً عن الملك الراحل، في الحق والباطل على حدّ سواء.
حتى تصفية الصحافيين ليست غريبة عن تلك الأنظمة المسمّاة «ديمقراطية»، فالشواهد التاريخية معروفة للجميع، وإن كان الأمر غالباً ما يتمّ بوسائل أكثر احترافية، تتراوح بين الاغتيال المعنوي الذي يدفع الصحافي نحو التقاعد المبكر والاعتكاف بعيداً عن الأضواء أو الاستعانة بأرباب الجريمة المنظمة لإبعاد أيّة شبهة عن منظومة الحكم.
في حالة جمال خاشقجي يمكن افتراض أحد هذين السيناريوهين. صحيح أن السيناريو الأكثر ترجيحاً، في ظل ملابسات الاختفاء، تجعل أصابع الاتهام موجّهة بشكل مباشر إلى نظام محمد بن سلمان، إلا أن ثمة أسساً يمكن أن توفر دعامة للسيناريو الثاني الذي يمكن من خلاله افتراض وجود أيادٍ غير سعودية وراء ما جرى لذلك الرجل الذي دخل قنصلية بلاده في تركيا… ولم يعد!
تاريخ معروف
الاحتمال الأول، المرتبط بالمسؤولية المباشرة للنظام السعودي في خطف خاشقجي، وربما تصفيته، يبقى قائماً حتى إثبات العكس، خصوصاً أن أدلّة الإدانة تبقى أقوى بكثير من أدلّة النفي، وفي مقدّمتها السلوك المعروف لـ«مملكة القهر»، المعروفة تاريخياً بالأعمال القذرة لأجهزة استخباراتها، بالعنجهية الفظة لدوائرها السياسية والأمنية التي لم تتوان على سبيل المثال في تنفيذ حكم إعدام جائر ضد رجل دين أعزل كالشيخ نمر النمر، لترويع أهالي المنطقة الشرقية، ولم تشعر بأيّ حرج في احتجاز كبار الأمراء والمسؤولين الأمنيين والسياسيين المحسوبين على العهد السابق، كما جرى مع سجناء «ريتز–كارلتون»، ولم تكترث لأي رادع في واقعة اختطاف رئيس وزراء، وإهانته بشكل فظ، على غرار ما حدث قبل عام، يوم احتجز الرئيس سعد الحريري وأجبر على تقديم استقالته.
علاوة على ما سبق، فإنّ مسار التحقيقات التي تجريها السلطات التركية، وكما تفيد التسريبات اليومية للصحافة المحلية في تركيا كما في الصحافة العالمية، تتجه يوماً بعد يوم نحو الكشف عن أدلّة جديدة تجعل الاتهام الموجه إلى السعودية يقترب بوتيرة سريعة من اليقين.
ولكنّ ثمة احتمالاً أخراً يبقى مطروحاً، حتى وإن لم يكن مدعماً حتى الآن، سوى بحملة بائسة تخوضها الأجهزة الثلاثة التي سخرها محمد بن سلمان للرد على الاتهامات عبر ثلاثة محاور، وهي: الدبلوماسية التي كان القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري أحد نجومها من خلال وسم «مسرحية جمال خاشقجي»، والإعلام الذي اختزلته مواقف صحيفة «الرياض» التي استعادت كلاسيكيات الحديث عن «الإعلام المعادي» الذي «يحمل الملامح الإخوانية والقطرية»، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تروّج لسيناريو «المؤامرة التركية والقطرية».
بعيداً عن تلك الحملة البائسة، يمكن، بلغة المنطق، وضع احتمال، ولو ضئيل، بوجود مسار معيّن في قضية خاشقجي أبعد من قرار من السلطات السعودية بتصفيته.
توتر مع الأميركيين
وفي هذا السياق، فإنّ المنطق السياسي نفسه، يجعل من الصعب التسليم بمصادفة مثيرة للانتباه بين قضية خاشقجي والتصعيد الكلامي على خط الرياض–واشنطن، والتي بلغت ذروتها قبل أيام، حين أطلق دونالد ترامب ما يمكن اعتباره تهديداً واضحاً للسعودية بقوله خلال تجمعات انتخابية: «أنا أحب الملك، الملك سلمان، لكني قلت له، أيها الملك نحن نحميك، وربما لا تتمكن من البقاء لأسبوعين في الحكم من دون جيشنا، لذلك عليك أن تدفع».
المثير للانتباه، أن الرد السعودي على ترامب هذه المرّة أتى على لسان محمد بن سلمان الذي نقلت عنه صحيفة «عكاظ» القول إن «السعودية كانت موجودة قبل الولايات المتحدة الأميركية، فهي موجودة منذ عام 1744، أعتقد قبل أكثر من 30 عاماً من وجود الولايات المتحدة الأميركية»، مذكراً ترامب بأن «الولايات المتحدة عملت ضد أجندتنا، إلا أننا كنا قادرين على حماية مصالحنا. وقد كانت النتيجة النهائية هي أننا نجحنا، وأن الولايات المتحدة في ظل قيادة أوباما قد فشلت»، ومشدداً على «أننا لن ندفع شيئاً مقابل أمننا، ونعتقد بأن جميع الأسلحة التي حصلنا عليها من الولايات المتحدة قد دفعنا من أجلها، وهي ليست أسلحة مجانية فمنذ أن بدأت العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية، قمنا بشراء كل شيء بالمال».
هذا التصعيد لم يأتِ في سياق معزول عن تهديدات أميركية أخرى لابن سلمان، تردّدت على شكل تقارير وتسريبات في الصحافة الأميركية بشأن هشاشة وضع الأمير الشاب، حتى أن أحدها ذهب إلى حد القول إن النظام الحالي في المملكة السعودية قد ينتهي خلال أشهر، وهو ما ترافق أيضاً مع عودة الحديث عن أدوار يقوم بها أفراد من العائلة الملكية، كـ«الملك» أحمد بن عبد العزيز الذي يرى كثيرون أنّه يضع العرش السعودي نصب عينيه، وأولاد الملك فيصل الذين تمّ عزلهم بسلسلة القرارات الملكية الصادمة التي تكاثرت منذ وصول الملك سلمان إلى الحكم.
وفي واشنطن، تزداد دعوات المشرعين إلى فرض عقوبات على «أعلى مستويات» الحكومة السعودية في حال ثبوت تورطها في اختفاء خاشقجي، فيما يستعد محققون أتراك لدخول مبنى القنصلية السعودية في مدينة اسطنبول حيث اختفى خاشقجي بعد دخوله إليها يوم الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
وفي دليل جديد ضد الرياض، نشرت صحيفة «صباح» التركية المؤيدة للحكومة ما قالت إنها أدلة أولية من المحققين تحدد هوية مجموعة من 15 فرداً من المخابرات السعودية ضالعة في اختفاء خاشقجي الغامض.
وتصاعدت الضغوط الدولية على السعودية، لكشف مصير خاشقجي المنتقد البارز لسياسات المملكة والذي كان يقيم في العاصمة الأميركية واشنطن. وكان خاشقجي دخل قنصلية بلاده في تركيا لاستصدار وثيقة تتعلق بزواجه من خطيبته التركية خديجة جنكيز التي انتظرته لساعات على باب القنصلية دون جدوى.
أما الرئيس دونالد ترامب فقد أكد في أكثر من مناسبة، الأسبوع الماضي، أنه سيبذل كل الجهود الممكنة لكشف مصير خاشقجي.
وسئل ترامب في مقابلة عبر الهاتف مع قناة «فوكس نيوز» عما إذا كان السعوديون مسؤولين عن اختفاء خاشقجي أو مقتله، فقال «أتصور أن عليكم أن تقولوا حتى الآن إن الأمر يبدو كذلك قليلاً وإنه يتعين علينا أن (ننتظر و) نرى»، كاشفاً عن أن محققين أميركيين يعملون مع الجانبين السعودي والتركي في القضية.
طريق مسدود
وسواء صحّ السيناريو الأول، الذي يجعل العنجهية السعودية تصل إلى حدّ «الغباء السياسي»، أو السيناريو الثاني، الذي يعكس «دهاءً شيطانياً» لدى طرفه المحتمل، فإنّ قضية خاشقجي تشي بأنّ مملكة آل سعود، وتحديداً عرش سلمان وولده، قد بات على تخوم عين العاصفة.
على هذا الأساس، يمكن استشراف احتمالات متدرّجة للتداعيات المترتبة على ثبوت ضلوع السعودية في اختفاء خاشقجي، أو ربما تصفيته، خصوصاً في ظل تعدّد الأطراف المعنية بالأزمة، والتي يحمل كلّ منها أجندته الخاصة.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، قد تشكّل قضية خاشقجي ورقة ضغط جديدة على نظام الملك سلمان لاحتواء أيّة محاولة لـ«التمرّد»، ولو كلامياً… ومواصلة سياسة الابتزاز التي انتهجها دونالد ترامب تجاه «البقرة الحلوب» منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
وبالنسبة إلى تركيا، ومن خلفها حليفتها قطر، ثمة اعتباران يمكن أن يشكلا الإطار الذي يمكن أن يتحرّك من خلاله رجب طيب أردوغان على خط أنقرة–الرياض–الدوحة:
الأول، هو أن ثمة جريمة وقعت على أرض تركية، أي أنّ ثمة استباحة لأمن تركيا.
الثاني، هو أن قضية على هذا القدر من الخطورة، يمكن ان تشكل أداة ضغط جديدة، باتجاه فرض أمر واقع جديد يقود في الحد الأدنى إلى التراجع عن سياسة عزل قطر، وفي حده الأدنى إلى انقلاب المشهد بحيث تصبح السعودية هي المحاصرة دولياً.
على هذا الأساس، وبانتظار ما سيتكشّف من معطيات حول هذه الحادثة المريبة، يمكن اعتبار مرحلة ما قبل دخول جمال خاشقجي قنصلية بلاده في اسطنبول، مختلفاً عمّا بعدها، فسواء خلصت التحقيقات إلى كشف الحقيقة، أم لا، فإنّ السعودية تبدو اليوم أمام أكثر المراحل خطورة في تاريخها الحديث، والاحتمالات تبقى متفاوتة بين ضغوط سياسية تصل إلى حدّ العزلة وبين إبقاء «لعنة خاشقي» سيفاً مسلطاً على عنق محمد بن سلمان الذي سيكون عليه أن يقدّم التنازل تلو الآخر، وفي ذلك كبح لمشروعه الاقتصادي–الإصلاحي الذي تزداد يوماً بعد يوماً مؤشرات سقوطه، لاسيما بعد فشل فكرة طرح «أرامكو» في السوق.
Leave a Reply