د. عبد الإله الصائغ
قديماً قيل أن الثورة يصنعها الأبطال ويسرقها الجبناء. وحديثاً قيل أن السلعة الذكية يصنعها المبدعون ويفخخها المتخلفون. وإذا كانت مفردة «يفخخها» جارحة فلنستبدلها بمفردة «يخربها».
والمتخلف مخرب، سواء عرف ذلك أو لم يعرف، لأن التخلف هو المعنى المروع والدقيق للتخريب. لا نريد أن نقول إن الغربي صنع الطائرة والسيارة أما الشرقي فخخهما دون أن يكترث بدين الضحية أو قوميته أو معتقده فغاية المتخلف حين يتشدد هو القتل والقتل فقط. وثمة المفتي خلف الكواليس يحجز للمنتحر جنة وحوراً عيناً وولداناً مخلدين… وها أني أحصر ديباجتي في التليفون الذكي كي لا نتشتت، فهو معجزة المعجزات (تلفزيون، سينما، كاميرا، فيديو، موسوعات ومعجمات، حوار بالصورة والصوت، ترجمة… إلخ) يعني أن التليفون الذكي نقلة نوعية إعجازية تكاد تشبه النقلة من الزمن الأرضي إلى الزمن الضوئي. وجماعتنا مازالوا يبحثون في حاويات القمامة التاريخية لكي يخذلوا المنهج العقلي والبحث العلمي والرقي الحضاري!
الزمن العربسلامي واقف وزمن الآخرين متحرك. لنعترف بأن زماننا يتقهقر وزمانهم يتقدم.
التليفون الذكي كيف يتعامل معه المستهلك المقرف؟ (المقرف قد يكون حاملاً شهادتي دكتوراه فلا علاقة بين الشهادة والترف الاقتصادي وبين كيمياء المقرف) فقط أضع بين عيني القارىء الكريم عدداً من الحالات البليغة:
1– في عيادة أو مكتب انتظار ثمة جالسون يتكلمون مع أنفسهم بصمت كامل وتنفرد سيدة (أو سيد) بوضع التليفون على «السبيكر» وتتكلم بصوت عال مع عيالها أو اصدقائها أو أو .. ولا تفكر لهنيهة واحدة بانها تزعج من حولها حد الغثيان.
2– يضع السائق برنامج GPS على تليفونه الذكي ليستدل به على الطريق ويمسك التليفون بيده في الطريق السريع وينظر إليه بين الفينة والثانية مهملاً مخاطر الطريق وتحذيرات الراكبين معه… فهو سعيد لأن تليفونه سيوصله إلى ما يريد ناسياً أن تليفونه قد يوصله والراكبين إلى المستشفى أو المقبرة.
3– يطلبك ملغياً في ذهنه قيمة الزمن ويتحدث إليك عن أحواله الشخصية كيف ذهب مع زوجته لشراء حفاظات الطفل ثم يحدثك عن تفيه زاره فعمل له وليمة عشاء ويعدد لك الاصناف ويشرح ما دار بينهما من أحاديث فطيرة لدرجة أنك تشعر بأن شهيته للكلام تتزايد مع الوقت فتضطر لتنبيهه أنك محتاج لوقتك فيغضب عليك.
4– يرسل إليك عشرات المرات بوساطة المسنجر أخباراً مستهلكة وفيديوات تخدش الحياء أو الذوق أو الكرامة أو الذاكرة، وأخباراً تعرفها أكثر منه. فإذا رزقك الزمان رجلاً آخر يمطرك بمطر كمطره فلك أن تتخيل الورطة مع هؤلاء الذين يمتلكون فراغاً لا يعرفون كيف يستثمرونه وتليفوناً ذكياً يجهلون كيف يستعملونه.
5– في التليفون كاميرا ولعلها أخطر ما فيه، حين يكون التليفون بيدٍ غبية أو قليلة ذوق فيلتقط دون علمك صورة لك أو لزوجتك ولابنتك ولجارك الزائر وهم في حالات خاصة جداً دون أن يطلب الأذن ثم تجد الصور بعد وقت قصير منشورة على الفيسبوك فيصيبك العجب من هؤلاء الذين يجهلون أبجديات الحياء واللياقة.
6– كثيرون أولئك الذين يكنزون الفيديوات الغريبة في تليفوناتهم فإذا جالسك واحد منهم فتح لك الفديو لتشاهد دون أن يستأذنك فيشتت أفكارك ويبدد جلستك ناسيا مقولة «لو تساوت الأذواق لبارت السلع». فمن أدراك أن خزائن تليفونك تعنيني ولو بمقدار خردلة؟ ولكن العيب في تربيتنا التي علمتنا الممنوعات ولم تدخل في قائمتها إيذاء الحساسية الجمالية. تضطر أن تقول له اتركني أرجوك أو أن تترك المجلس وتخرج غير آسف.
7– أنت تكلم فرداً بعينه فيجعلك على «السبيكر» دون أن يستأذنك وبعد أن يفرغ وقتك معه وطاقتك على الاحتمال يضحك كأنه يتفضل عليك فيقول لك معي محمد وعباس وعماد وأم شريف وخالة مروان وأبو جاسم… يعني لنقل أن معه مثلاً عشرة من الضيوف فيطلب إليك أن تكلمهم واحداً واحداً حتى تلعن الساعة التي تواصلت مع هذا المخلوق القميء تليفونياً!
8– إذا كلمك أحدهم ومعه جُلّاس ولم يخبرك أنه ليس وحده، فهذه خيانة صغرى لأن لكما خصوصية تتكلم أنت بموجبها، فإذا وضعك على «السبيكر» دون علمك وأخذ يمازحك أو يذكر شيئاً من الخصوصيات وأنت لا تعلم، فهذه خيانة كبرى يستحق عليها مرتكبها الخلع والقلع على أقل تقدير.
9– ليس من حق المتكلم معك أن يسألك عن خصوصياتك من نحو من هي زوجتك وأين تشتغل وكم راتبها أو يسألك عن مكان عملك ومن هو مديرك وكم هو راتبك أو عن ابنتك في أية مدرسة هي وكم عمرها وهل هي متزوجة، وأسئلة الفضوليين كثيرة، فمن حقك أن تنهره وتقول له: هذه أمور تخصني ولا يحق لرجل الأمن أن يوجهها لي بدون وجود محام. إن المعلومة الخاصة بك ملكك أنت وحدك ومن يحفر ليصل إلى دواخلك فهو رجل ملتبس مدجج بالأخطار فكن حذراً منه والأفضل أن تتركه.
10– تكتب له ديباجة خاصة وتقول له دع الأمر سراً بيننا فيقول لك على عيني وعلى راسي ثم تجد كتابتك السرية منشورة على صفحته الخاصة في الفيسبوك، فهل تلومه أم تلوم نفسك التي لم تحسن اختيار من يستحق السر، أم تلوم الزمان؟ وقد ترسل له صوراً خاصة جداً جداً وترجوه أن يمحو الصور بعد مشاهدتها مباشرة فيقول لك إبشر، ويقسم لك بأنه سيمحو الصور، ثم ينشرها على الفيسبوك وهو يعلم بأنها تسيء إليك والى أصحاب الصور إساءة بالغة (ولكن).
11– قسم كبير يقتحم عليك خلوتك المسنجرية فيرسل إليك لوغو مؤسس على عبارة جمعة مباركة أو أية مناسبة دينية أو وطنية ثم يوعز إليك أن توزع هرطقاته المقرفة على أصدقائك وكم من مرة أُدخلت في «غروب» دون أن يستأذنني صاحبه، وهذا التصرف فيه سوء ذوق وقلة لياقة، عدا عن أن الـ«غروب» فيه حملة المليون دعاء ويعدك بالجنة إن وزعت هذا القرف، وبالنار إن لم تفعل! ياناس قليلاً من الحياء، فلو علم مخترع التليفون الذكي بأنه سيكون في أيد غبية كهذه لكفّ عن الاختراع.
12– يدعوك صاحبك إلى بيته أو مكتبه لشرب فنجان قهوة ثم يرفع التليفون ويكلم صاحبه كأنك غير موجود بالمرة وينتهي وقت الزيارة وهو ما زال يمارس شبق التليفون دون احترام لآداب الضيافة التي يحرص عليها الغربي والشرقي معاً. من حقك وأنت تغادر مجلسه المقرف أن توبخه بكلمات هو جدير بها كل الجدارة.
مختصر الديباجة أن التليفونات الذكية باتت سبباً لمشكلات عويصة بين صديق وصديقه، شقيق وشقيقه، زوج وزوجته، حبيبة وحبيبها، مؤسسة وشكيلتها، بل أن كثيراً من حوادث السير المروعة سببها الانشغال بالهاتف، وقد انتقلت عداوات سوء استعمال الهواتف الذكية إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهل مَن يلومني لو اخترت عنواناً لديباجتي هذه: تليفونات ذكية بأيدٍ غبية؟ هل ثمة زيادة لمستزيد؟.
Leave a Reply