عماد مرمل – «صدى الوطن»
احتفل لبنان في 22 تشرين الثاني بعيد الاستقلال الـ75.
عطلة رسمية، عرض عسكري، مواقف رنانة، واستقبال رسمي في قصر بعبدا، بحضور الرؤساء الثلاثة وبمشاركة حشد من السياسيين. ولكن، مهلاً.. هل الاستقلال اللبناني «مكتمل المواصفات» حقاً أم أنه «مبتور»؟ وهل المظاهر الاحتفالية به شكلية فقط أم تعكس تفاعلاً حقيقياً مع معاني المناسبة؟
صحيح أن معظم الأراضي اللبنانية خالية من أي وجود أجنبي (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وجزء من بلدة الغجر التي لا تزال خاضعة إلى الاحتلال الإسرائيلي)، لكن الصحيح أيضاً أن الاستقلال الحقيقي للدولة يتطلب ليس فقط أرضاً محررة وإنما كذلك قراراً حراً وإرادة مستقلة، وهذان شرطان لا يبدو أنهما قد اكتملا حتى الآن، باعتبار أن بعض مكونات السلطة والطبقة السياسية في لبنان تتأثر كثيراً بالخارج وتراعي في سياساتها وخياراتها مصالح هذا الخارج ومتطلباته، على حساب السيادة الوطنية.
بيئة خصبة للصراعات الخارجية
وليس أدل على هذا الواقع من تسليم معظم اللبنانيين، شعباً وسياسيين، بأن بلدهم استحال منذ ولادته الرسمية عام 1943 إلى مسرح لتجاذب إقليمي–دولي، يشتد حيناً فيتحول إلى صراع مكلف، ويتراجع حيناً آخر فيسود السلام الهش، وكثيراً ما يقال إن الاستقرار أو الاضطراب في لبنان هو وليد قرار خارجي بالدرجة الأولى.
تلك المؤثرات العابرة للحدود أنما تعود في جوهرها إلى أن الطوائف اللبنانية لا تزال تشعر بالحاجة إلى الاحتماء بمظلة إقليمية أو دولية لحماية مصالحها وأدوارها في الداخل ولتحقيق التوازن مع «الآخر» غير الموثوق، كون النظام السياسي اللبناني لا يؤمن لها «الاكتفاء الذاتي» ولا يعالج كل هواجسها، بل هو غالباً ما يكون منتجاً لأزمات دستورية ووطنية، تتلاحق الواحدة تلو الأخرى، بحيث تشكل مبرراً دائماً للتدخل الخارجي، إما لدعم طرف ضد آخر وإما للمساهمة في إيجاد التسوية إذا كانت تتناسب مع حسابات اللاعبين متعددي الجنسيات.
وعلى رغم التجارب الصعبة التي مرّ فيها لبنان، يستمر الخلاف بين مكوناته حول تحديد هوية العدو أو الخصم الذي يشكل خطراً على الاستقلال، وتعريف الصديق أو الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه والوثوق في نياته وسياساته.
والمثال الأبلغ على هذه الحقيقة يتمثل في نمط التعامل الداخلي مع سوريا التي يجد فيها فريق لبناني دولة شقيقة يُفترض إقامة أفضل العلاقات معها مسجلاً لها أنها قدمت المساعدة للبنان خلال فترة وجود جيشها فيه، بينما ينظر إليها فريق آخر باعتبارها جهة معادية كانت تمثل قوة احتلال وتستمر في السعي إلى استعادة وصايتها على البلد.
مشهد معبّر
ما حصل خلال حفل الاستقبال لمناسبة الاستقلال في قصر بعبدا كان واضحاً في دلالاته، حيث بادر الرئيس المكلف سعد الحريري إلى مغادرة مكانه قرب الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، بعدما «افتعل» دردشة مع أحد الزوار المهنئين بالعيد، وذلك لتجنب مصافحة السفير السوري في بيروت علي عبد الكريم علي، ثم ما لبث أن عاد إلى «قواعده» سالماً بعد مرور السفير!
مثال آخر، يعكس غياب المقاربة الواحدة لمفهوم الاستقلال، وهو تباين السلوك حيال التهديد الذي يمثله العدو الإسرائيلي، إذ بينما يتمسك جزء من اللبنانيين بسلاح المقاومة لمواجهة أي اعتداء إسرائيلي استناداً إلى معادلة الجيش والشعب والمقاومة، ترفض شريحة من اللبنانيين هذه المعادلة وتعتبر أن سلاح «حزب الله» غير شرعي وأنه لم يعد يوجد مبرر للإبقاء عليه.
إسرائيل والتكفير
وامتداداً لهذا الانقسام حول الخيارات الاستراتيجية، يبدو أن البعض اعتاد على الخروقات الإسرائيلية، شبه اليومية، للسيادة اللبنانية فلم تعد تستفز وطنيته وحميته، إلى حد أنها أصبحت لا تستوقفه ولا تسترعي انتباهه حتى لو انتهكت الطائرات الإسرائيلية الأجواء اللبنانية لشن اعتداءات على سوريا، في حين أن الجيش والمقاومة يرصدان تلك الخروقات ويوثقانها، بل إن «حزب الله» هدد أكثر من مرة بإمكان الرد إذا لم تتحرك الدولة اللبنانية لوقف التجاوزات الإسرائيلية.
وحتى طريقة التعامل مع الخطر التكفيري لم تكن واحدة، نتيجة التجاذبات المذهبية والحسابات السياسية المتضاربة التي استفادت منها المجموعات الارهابية لتطيل أمد إقامتها على الاراضي اللبنانية، قبل أن يقرر الحزب والجيش طردها بالقوة العسكرية وتحرير الحدود الشرقية من وجودها «الآسن».
وبات معروفاً أن هناك جهات لبنانية، لها امتدادات خارجية، منعت «الحسم» لفترة من الوقت، وأمنت «الرعاية» لبعض تلك المجموعات إما بدافع حماية ما سمي بـ«الثورة السورية» على تخوم دمشق وإما بغرض إبقاء كل من «حزب الله» والنظام السوري في دائرة الاستنزاف والإنهاك، وقد رتّب هذا النوع من الرهانات أثماناً باهظة على مستويات عدة.
أمام هذه الحقائق التي ليست سوى عينة من وقائع كثيرة، يتبين أن الاستقلال اللبناني لم يغادر بعد، مرحلة الاختبار و«الروداج»، وأن مناعته لم تصل بعد إلى المستوى الكفيل بحمايته من «الجراثيم» المهدِدة لصحة الدول.
Leave a Reply