نبيل هيثم – «صدى الوطن»
لا يبدو أن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي ستنهي المعركة الحادة، وغير المسبوقة، بين الرئيس دونالد ترامب وبين الديمقراطيين.
خلافاً للتقليد المعروف في السياسة الأميركية، حيث يجري شكل من أشكال فض الاشتباك بين الرئيس ومعارضيه، خصوصاً في الملفات الخارجية بانتظار المرحلة الحاسمة من انتخابات الرئاسة، تستعد الولايات المتحدة لمعركة سياسية جديدة بين الرئيس ومعارضيه قد تكون أكثر حدّة من تلك التي شهدها العامان الأولان من ولاية ترامب.
العنوان العريض للمعركة الحالية، التي يُرجّح أن تكون بداية لمعارك متلاحقة، مع بدء العد العكسي للحملة الرئاسية ٢٠٢٠، هو جمال خاشقجي، الذي لا يزال مقتله في القنصلية السعودية في اسطنبول أحد محرّكات العلاقات المتعددة الخطوط، ولاسيما على خط واشنطن–الرياض، أو خط البيت الأبيض–الكابيتول.
اختار دونالد ترامب التريّث والمناورة وكسب الوقت. لكن البيان الرئاسي الذي طال انتظاره حول مقتل الصحافي السعودي، أنتج موجة من الانتقادات في الداخل الأميركي بعدما أحجم عن إدانة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، برغم عدم تبرئته تماماً من التآمر لقتل خاشقجي، في ما يناقض تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) بأنه هو من أمر بالقتل.
على هذا الأساس، أسقط دونالد ترامب شعاره الانتخابي «أميركا أولاً» على موقفه من السعودية، حين أكد عزمه على مواصلة الشراكة معها لضمان مصالح بلاده وإسرائيل وجميع الشركاء في الشرق الأوسط.
رد الكونغرس لم يتأخر، حيث طالب مشرّعون –جمهوريون وديمقراطيون– بتوفير إجابات شافية عما دفع ترامب إلى إمساك العصا من الوسط في الموقف من قضية خاشقجي.
الكونغرس
أولى الخطوات العملية من قبل الكونغرس، أتت بعد ساعات قليلة على صدور بيان البيت الأبيض بشأن خاشقجي، حيث أرسل زعيما لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، الجمهوري بوب كوركر والديمقراطي بوب ميننديز، رسالة تطالب ترامب بأن يأمر بإجراء تحقيق حكومي أميركي حول ما إذا كان لولي العهد السعودي دور مباشر أو غير مباشر في جريمة القتل.
هذا الإجراء يجعل، من الناحية العملية، «قانون ماغنيتسكي» في وضعية التفعيل، خصوصاً أن القانون المذكور يحدد آلية واضحة للإجراءات التطبيقية، بموجبها يطلب الكونغرس من الرئيس أن يحدد بصورة قاطعة أسماء منتهكي حقوق الإنسان حول العالم، ويحتم على الأخير أن يرد على طلب الكونغرس خلال مدة أقصاها 120 يوماً من إرساله.
وكان الكونغرس –ممثلاً بلجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ– قد توجه بطلب إلى البيت الأبيض بهذا الشأن في العاشر من تشرين الأول الماضي، ولكن من دون السؤال تحديداً عن محمد بن سلمان، وبالتالي فإنّ رسالة كوركر وميننديز، التي تشير بالاسم إلى محمد بن سلمان تشكل ضغطاً إضافياً على ترامب.
وإلى جانب تفعيل «قانون ماغنيتسكي»، لمعاقبة محمد بن سلمان، ينتظر أن يصوت مجلس الشيوخ على مشروع قانون يحظر بصورة شاملة بيع الأسلحة للسعودية، مع الإشارة إلى أن هذا التشريع يحظى بدعم كبير من قبل السناتور الجمهوري لينزي غرام، وهو أحد أهم حلفاء ترامب.
مواجهة
من المؤكد أن قضية خاشقجي ستفرض إيقاعها على الإجراءات التي يمكن أن يتخذها الكونغرس في مواجهة موقف ترامب، من خلال قانون الموازنة، الذي يفترض أن تتم المصادقة على مشروعه قبل السابع من كانون الأول المقبل، تحت طائلة غلق مؤسسات وبرامج الحكومة الاتحادية.
وبحسب تسريبات الصحافة الأميركية، فإنّ عدداً كبيراً من أعضاء الكونغرس يعتزم ربط تمرير الميزانية الفدرالية بتشريعات تتضمن عقوبات على السعودية، بما في ذلك صدور قرار يدعو إلى وقف الحرب في اليمن، وتعليق صادرات السلاح إلى الرياض، وتجميد التعاون العسكري والاستخباري معها.
كل ما سبق يجعل موقف ترامب ضعيفاً أمام هجوم معارضيه، خصوصاً أن أوراق القوة التي في حوزته لم تعد ذات قيمة.
وعلى سبيل المثال، فإنّ قدرة ترامب على مواجهة الهجمة الشرسة للمشرّعين على خلفية قضية مرتبطة بالسعودية ليست سهلة، خصوصاً أنّ ثمة تجربة سابقة في هذا الإطار مع سلفه باراك أوباما الذي لم يستطع في أواخر عهده من الذهاب بعيداً في استخدام حق «الفيتو» على «قانون جاستا» الخاص بمقاضاة السعودية على خلفيات هجمات «١١ أيلول» الإرهابية.
يضاف إلى ما سبق، أن المعسكر الجمهوري لا يقف إلى جانب رئيسه في هذه المعركة، وهو ما تبدّى في مواقف بوب كوركر و ليندسي غراهام، علاوة على ما كشفته استقالة كريستين فونتين روز المكلفة بملف دول الخليج والسعودية في مجلس الأمن القومي من وجود انقسام داخل إدارة ترامب بشأن الخطوة المقبلة تجاه ولي العهد السعودي.
ومعروف أن كريستين فونتين تشرف على ملف العلاقات الأميركية السعودية، وتتبنى موقفا متشدداً ضد محمد بن سلمان، على خلفية تقديرات الـ«سي آي أي»، إلا أن خروج مستشار الأمن القومي جون بولتون للقول إن ما لدى واشنطن من دلائل لا يؤكد مسؤولية ولي العهد السعودي في عملية قتل خاشقجي، دفعها إلى تقديمها استقالتها احتجاجاً.
إدارة الأزمة
ما سبق يجعل خيارات ترامب تقتصر اليوم على المزاوجة بين كسب الوقت والمناورة السياسية لتجنّب العاصفة في الكونغرس، بما يتيح له إدارة الأزمة بخيار من ثلاثة:
أوّل تلك الخيارات، الاستجابة لمطالب المعترضين، وبالتالي تحويل مضمون الخطاب الرئاسي ليتلاءم مع تقديرات الـ«سي آي أي» عبر الإقرار بالمسؤولية المباشرة لولي العهد السعودي عن عملية القتل، وهو ما يرمي الكرة في ملعب الآخرين، خصوصاً إذا ما اقترن ذلك بإجراءات دولية، على طريقة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تجعل القضية مفتوحة أمام سنوات من التحقيق والمحاكمة.
أما ثاني الخيارات فيتمثل في المزاوجة بين تبني موقف السلطات السعودية، وتبرئة ساحة محمد بن سلمان، والاكتفاء بإدانة المسؤولين الأدنى مستوىً، وفي الوقت ذاته الاستجابة للتخفيف من حدة الغضب الداخلي، او بمعنى آخر، اللجوء إلى المقاربة المعتمدة في العلاقات مع روسيا.
وأما الخيار الثالث، فيكمن في رمي الكرة بعيداً عن الولايات المتحدة، عبر دعم تحقيق تركي في قضية خاشقجي –باعتبار أن الجريمة وقعت في الأراضي التركية – وبالتالي انتظار نتائج التحقيق التي قد تطول سنوات، مع اتخاذ بضعة إجراءات تطال المتهمين الذين يحيلهم القضاء التركي إلى المحاكمة.
على هذا الأساس، يتوقع كثيرون أن يتمكن دونالد ترامب من احتواء عاصفة خاشقجي، خصوصاً أن مسيرته في عالمي السياسة والمال أثبتت قدرته الفائقة على عقد الصفقات، لا بل أن هناك من يعتقد بأنّ ثمة صفقة ما، بدأ الإعداد لها خلف الكواليس، من شأنها أن تحفظ ماء وجه ترامب في الداخل، ولا تفقده مليارات «البقرة الحلوب» في الخارج، وهي تشمل وقف الحرب في اليمن والضغط على السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لإنهاء الأزمة مع قطر.
مع ذلك، فإنّ الصراع الدائر في الولايات المتحدة سيبقى مفتوحاً على كل الاتجاهات، خصوصاً أن معركة الرئاسة قد بدأت باكراً، وما اختيار ترامب عنوان «أميركا أولاً» في بيانه الأخير حول قضية خاشقجي إلا مؤشر أولي على ذلك!
Leave a Reply