إسرائيل تبحث عن أنفاق «حزب اله» .. ولبنان عالق في نفق الحكومة
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
إسرائيل تبحث عن مجال جديد للمواجهة. هكذا بكل بساطة، يمكن وصف الاندفاعة الجديدة الملامسة لحدود لبنان، والتي حاول الجيش الإسرائيلي أن يضفي عليها أهمية لا تستحقها من خلال إطلاق تسمية عسكرية عليها – «درع الشمال».
الضجيج المرافق للعملية العسكرية، التي لا تتجاوز حتى الآن الطابع اللوجستي يعكس مأزقاً إسرائيلياً واضحاً، بدأ منذ المرحلة المبكرة للأزمة السورية، حين قررت إسرائيل الدخول بشكل مباشر في الصراع من خلال سلسلة ضربات جوية استهدفت مراكز للجيش السوري، وأخرى للحرس الثوري الإيراني و«حزب الله»، وبلغت ذروتها باغتيال الشهيد جهاد مغنية ورفاقه، ولاحقاً الشهيد سمير القنطار.
على مدار سنوات عدّة، بدا وكأن إسرائيل قد فرضت قاعدة الاشتباك الخاصة بها في الأجواء السورية، حتى أن قادتها اكتسبوا ثقة فارغة بالنفس، حين انتقلوا من مرحلة الغموض الذي حجب أيّ تبنٍّ رسمي للغارات على سوريا، إلى مرحلة أكثر تقدّماً، سعت خلالها إسرائيل للقول إنها رقم صعب في المعادلة السورية، خصوصاً بعدما فُتحت جبهة الجنوب السوري على مصراعيها.
الجبهة السورية
في الواقع، فإنّ دلالات الفشل الإسرائيلي بدت واضحة منذ البداية. التدخل الجوي، وبرغم ما خلّفه من خسائر بشرية ومادية في صفوف المحور المقاوم، لم تؤدّ إلى تغيير الحقائق الميدانية على الأرض، خصوصاً بعدما بات لهذا المحور غطاء سياسي وعسكري على مستوى روسيا، ما انعكس بشكل واضح على مجريات المعركة المتعددة الأطراف ضد سوريا، وفرض متغيرات عابرة للمحافظات السورية، من دير الزور إلى القلمون، ومن حلب إلى درعا.
في هذه المرحلة، باتت الاعتداءات الإسرائيلية مادة للابتزاز السياسي، خصوصاً بعد تفاهمات هامبورغ بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين بشأن الجنوب السوري، وبعد رضوخ إسرائيل نفسها لمعادلة الردع التي فرضها عليها «حزب الله» بعد استشهاد جهاد مغنية، والتي حددها السيد حسن نصرالله بشكل واضح في كلمته التلفزيونية التي أعقبت عملية شبعا، التي ردت بها المقاومة اللبنانية على عملية الاغتيال.
وإذا كان السلوك الإسرائيلي الذي اقتصر بطبيعة الحال على المجال الجوي السوري، قد ضمن لفترة معيّنة نوعاً من الثبات، فإنّ حادثة إسقاط الطائرة الجوية الروسية «إيل–21» في أيلول (سبتمبر) الماضي، شكلت نقطة تحوّل في قواعد الاشتباك السائدة، خصوصاً أن روسيا الغاضبة لمقتل طياريها، ردّت على الاستفزاز الإسرائيلي رداً استراتيجياً من خلال تزويد الجيش السوري بمنظومة «أس–300»، وربط منظومة الدفاعات الجوية السورية بمنظومات الرصد والانذار الروسية.
انطلاقاً من ذلك، بدت الآفاق مقفلة أمام إسرائيل خصوصاً أن ما نُقل إليها من تحذيرات –الكثير منها علني– من موسكو، كان حازماً في التشديد على أن أيّ تحرّك استفزازي سيعدّ هذه المرّة لعباً بالنار ستكون تداعياته قاسية، وهو دفع أحد المعلقين الإسرائيليين حينها إلى القول إن «إسرائيل جلبت الدب الروسي إلى كرمها».
وكان واضحاً، منذ أيلول الماضي، أن كل المحاولات الإسرائيلية لتبريد الغضب الروسي قد باءت بالفشل، وهو ما عكسته بشكل واضح نتائج زيارات قائد سلاح الجو الإسرائيلي إلى موسكو بعد حادثة «إيل–21» مباشرة، والبرودة التي أبداها المسؤولون الروس، وعلى رأسهم فلاديمير بوتين، تجاه محاولات بنيامين نتنياهو إعادة الدفء في العلاقات مع روسيا.
لا ضوء أخضر أميركياً
علاوة على ما سبق، فإنّ الرهان الإسرائيلي التقليدي على الولايات المتحدة بدا خائباً هذه المرّة، خصوصاً أن أجندة دونالد ترامب باتت مزدحمة بالملفات التي تجعل الضوء الأخضر لأية مغامرة إسرائيلية يصطدم بتعقيدات داخلية وخارجية لدى صناع القرار في الولايات المتحدة.
على هذا الأساس، كان لا بد لإسرائيل، لكي تحفظ ماء وجهها، أن تغامر بمفردها من خلال اختبار الرد الروسي على أية محاولة لتغيير قواعد الاشتباك التي ارستها القيادة الروسية بعد حادثة إسقاط الطائرة. ومن هنا يمكن فهم سبب إقدام إسرائيل، بشكل مفاجئ، على شن ضربات صاروخية وُصفت بالاختبارية، لمواقع تابعة لإيران و«حزب الله» في الأراضي السورية، قبل أسبوع، في خطوة بائسة انتهت بإعلان سوري عن إسقاط كل الأهداف المعتدية، حتى من دون تفعيل منظومة «أس–300».
من هنا يمكن فهم طبيعة التحركات الإسرائيلية عند الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، أو ما باتت إسرائيل تسميه «درع الشمال»، التي قوبلت منذ اللحظة الأولى بسخرية، حتى في الداخل الإسرائيلي، من خلال مروحة تعليقات تفاوتت بين مقالات ورسومات كاريكاتورية تعكس حقيقة مرّة لدى الإسرائيليين، وهي أن ثمة عجزاً في مواجهة «حزب الله»، وبين تحليلات ومواقف سياسية معارضة رأت في «حرب الأنفاق» المزعومة ما هي إلا محاولة من بنيامين نتنياهو، المحاصر بأزمات الحكم وملفات الفساد، للهروب إلى الأمام.
بعيداً عن الضجيج المرافق لعملية «درع الشمال»، سواء في تل أبيب أو في واشنطن التي انبرت منذ اللحظة الأولى للترويج لخطاب الحرب، من خلال أبواق معروفة، على غرار جون بولتون، فقد كان ملفتاً الثبات الانفعالي في روسيا التي قاربت المسألة بموقفين واضحين عبر عنهما وزير الخارجية سيرغي لافروف: الاستخفاف بالتحركات الإسرائيلية من جهة، والتحذير من المس بلبنان من جهة ثانية.
الموقف الروسي
ومنذ اللحظة الأولى للإعلان الإسرائيلي عن «درع الشمال» كان تقدير الموقف في روسيا بسيطاً للغاية: ما يجري هو امتداد لحادثة إسقاط الطائرة الروسية. بمعنى آخر، وكما شرح مرجع دبلوماسي كبير في العاصمة الروسية، فإنّ موسكو ترى في التحركات الأخيرة مجرّد محاولة لإحداث اختراق يسمح لإسرائيل بالبقاء في ساحة المواجهة، من خلال البحث عن ثغرة في البر تعوّض انسداد الأفق في الجو.
يخلص التقدير الروسي إذاً، والكلام هنا للمرجع ذاته، إلى أنّ قواعد الاشتباك السائدة منذ أيلول الماضي لا تزال سارية المفعول، وبالتالي فإنّ التهديدات الإسرائيلية المرافقة لعملية «درع الشمال» ليست سوى «بروباغندا» تكذّبها الحقائق الاستراتيجية التي بات يدركها الجميع.
على هذا الأساس، فإنّه من المستبعد أن تقود التحرّكات الإسرائيلية الأخيرة، سواء انتهت بالكشف عن أنفاق مزعومة أم لا، إلى تصعيد شامل، وهو ما عبّر عنه مسؤولون إسرائيليون في الصحافة العبرية بمواقف متقاربة يمكن اختزالها بمقولة أن «لا إسرائيل ولا حزب الله معنيان بالتصعيد العسكري» في المرحلة المقبلة، وهو ما يناقض سيل التهديدات التي أطلقها المهرّج العسكري في الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي بات ينظر إليه باعتباره مجرّد ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي.
ومع ذلك، فإنّ ثمة ما يمكن إسرائيل أن تستغله من «درع الشمال»، وهو الانطلاق منها في حملة علاقات عامة سياسية، وتحديداً داخل الولايات المتحدة، لفرض عقوبات مالية إضافية قد تتجاوز هذه المرّة «حزب الله»، لتطال الاقتصاد اللبناني، مستفيدة من الفراغ الحكومي الحاصل، وهنا تكمن المشكلة الكبرى، لا بل الكارثة الوطنية التي يبدو معها البعض داخل الطبقة السياسية في البلاد إما «مراهقاً» في مقاربتها للتحديات (بالحد الأدنى)، وإما «متآمراً» في تشريع البلاد أمام إجراءات دولية على هذا الحد من الخطورة.
كل هذا يقود إلى استنتاج مفاده أنه إذا كان البحث الإسرائيلي عن ثغرة في نفق حدودي مزعوم لـ«حزب الله» في جنوب لبنان أضحوكة، فإنّ الثغرة الكبرى تبقى في «نفق» التشكيل الحكومي الذي لا يحتاج معه العدو لأيّ من آليات الحفر التي انطلقت محرّكاتها الاثنين الماضي.
Leave a Reply