دعوة للاستثمار بالناس .. وليس التجارة بهم!
رحل –الأسبوع الماضي– العربي الأميركي محمد عثمان وهو في ريعان الصبا والشباب، جراء إصابته بالمرض الخبيث. ومع تسليمنا بقضاء الله وقدره، إلا أن هذه الواقعة الأليمة تدفعنا إلى التفكير بحاضر أجيالنا ومستقبلهم، خاصة وأن الفقيد الشاب لم يقضِ بحادث سير، أو منتحراً، أو بجرعة زائدة من المخدرات، وإنما قضى بسبب المرض الذي يمكن معالجته، لو كان الاستثمار في الناس هو الغاية، بدلاً من الاستثمار في الحروب والترسانات النووية وآلات القتل الباهظة الأثمان.
يفترض بالولايات المتحدة أنها الأعظم على سطح هذا الكوكب، وإنها بالفعل كذلك، ولكنها ماتزال تعاني من مآزق عصية على الفهم، وتميل ميلاً شديداً لتحقيق الأرباح، لا على حساب صحة الآخرين فحسب، بل على حساب صحة الأميركيين أنفسهم.
ومن المفارقات المثيرة للريبة والأسى، أن الميزانيات التي ترصدها أميركا للأبحاث الصحية ولمكافحة الأمراض والأوبئة، آخذة بالتناقص والتراجع، في الوقت الذي ترتفع فيه بشكل جنوني الميزانيات العسكرية. وليس سراً، أن رعايتنا الصحية تتعرض لانخفاض خطير بسبب جشع الشركات الطبية والدوائية التي تضرب بعرض الحائط بكل القيم في سبيل مضاعفة أرباحها، الفاحشة أصلاً. فماذا لو علمنا –مثلاً– بأن المستشفى الذي كان يتعالج فيه محمد عثمان من اللوكيميا كان يتقاضى مئة ألف دولار يومياً، وعلى مدار أكثر من عام، من دون أن ينجح في إنقاذ المريض الشاب من مرضه العضال.
ليس هنالك أية أسباب وجيهة كي يفارق عثمان الحياة، وهو في التاسعة عشرة فقط من عمره، إلا إذا استثنينا –كمؤمنين– إرادة الله عز وجلّ، التي لا تتنافى مع حقيقة أن «لكل داء دواء»، ولكن هل يعرف السياسيون في لانسنغ وفي واشنطن، بأنه يمكن بالمال شراء كل شيء، هنا في الولايات المتحدة. إنهم يعرفون ذلك بالتأكيد، خاصة وأن الكثيرين منهم وصلوا إلى مناصبهم على خلفية صفقات مع اللوبيات العديدة بهذا البلد، ومن بينها لوبي الأدوية.
وفي الوقت الذي نودع فيه الكثير من أبنائنا اليافعين الذين يقعون ضحايا الأمراض الخبيثة، يستمر السياسيون في لانسنغ بالتآمر لتلويث مياهنا، بزيادة قدرها 10 أضعاف، عبر السماح بإلقاء المزيد من المواد المشعة في البحيرات العظمى!
هذا، ناهيك.. عن أننا نتغذى على المحاصيل والخضروات واللحوم المشبعة بالهرمونات والمضادات الحيوية والمبيدات المسرطنة، التي تنتجها شركات لا تضع في اعتبارها صحة الناس وسلامتهم العامة، طالما أنها قادرة على تسيير مصالحها ومضاعفة أرباحها من خلال شراء السياسيين والمسؤولين في المواقع الحساسة، وليس غريباً إذن، أن يكون «لوبي» اللحوم والألبان واحداً من أقوى مجموعات الضغط في العاصمة واشنطن!
إننا نعيش في أكثر البلدان تقدماً في العالم، ومع ذلك فنحن في مأزق خطير. مأزق لا تخطئه العين عند زيارة المسشتفيات المحلية البالغة القذارة، في غرف الانتظار وفي غرف الطوارئ، وحتى في غرف العمليات. ومع ذلك نعاني على الصعيد الوطني من نقص مريع في أعداد الممرضين لأن المسشتفيات لا تدفع أجوراً كافية تشجع الناس على مهنة التمريض.
على ضوء هذا الواقع، ليس مفاجئاً إذن أن يتناقص متوسط أعمار الأميركيين حتى الـ76 عاماً، وللسنة الثانية على التوالي، بعدما كان متوقعاً أن يرتفع إلى ٨٢ سنة، ففي بلد هو الأغنى في العالم والأكثر تطوراً وتقدماً تكنولوجياً يفترض أن يحدث العكس، وهو ما لم يحصل.
أيضاً، أظهرت دراسة حديثة أن طفلاً أميركياً من بين كل 40 مصاب بالتوحد، وهذا الوباء آخذ في الاتساع والانتشار في ظل غياب أية خطط حكومية أو بحثية لتطويقه. واستطلاع آخر أظهر أن معدل حوادث الانتحار في تصاعد، ضمن أوساط الطبقة العاملة في الولايات المتحدة. وأكثر من ذلك، فقد أظهرت بعض التقارير الأخيرة وجود أمراض في أميركا لم تعد موجودة في بلدان العالم الثالث، مثل الحصبة وشلل الأطفال.
وفي الأسبوعين الأخيرين، سلّط تقريران إخباريان الضوء على جشع بعض الشركات التجارية الأميركية، حيث تم استرجاع الخس (رومان ليتوس) من الأسواق في جميع أنحاء الولايات المتحدة بسبب تلوثه ببكتيريا «السالمونيلا»، وكذلك حصل الأمر نفسه بالنسبة لبعض اللحوم، حيث تم استرجاع 12 مليون باوند من لحم البقر بسبب تلوثه بـ«السالمونيلا» أيضاً، فأي استهتار بصحة الناس وسلامتهم أكثر من هذا؟
هنا في منطقتنا، في جنوب ديربورن و جنوب غربي ديترويت، تتصاعد معدلات التلوث باستمرار. تلوث الهواء لا يمكن احتماله، وترتفع باضطراد نسبة المصابين بالسرطان والربو، بدون أن يرف لحكوماتنا جفن. ناهيك عن تسميم المياه بمادة الرصاص السامة في مدن مثل فلنت.
إذن ما العمل؟ وما السبيل إلى الخروج من هذا المأزق؟
علينا في البداية الاعتراف بأننا مسؤولون جزئياً عن هذا الواقع المرير، وجزء من تقصيرنا يكمن بالسماح لوصول بعض المسؤولين إلى مناصب القرار، خاصة هؤلاء الذين يضعون مصالح الناس في آخر أولوياتهم ويفضلون عليها مصالح الشركات التي تدعمهم وترجح فوزهم في الانتخابات.
إذا كنا فعلاً قد هبطنا –كأميركيين– على سطح القمر، وإذا كنا فعلاً على وشك الهبوط على سطح المريخ، فيمكننا بلا أدنى شك إيجاد دواء ناجع للأمراض الفتاكة التي تقضي على عشرات الآلاف من شبابنا سنوياً. وإننا بالتأكيد قادرون على ذلك، إذا فضّل مسؤولونا في لا نسنغ وفي واشنطن الاستثمار في الناس.. وليس التجارة بهم!
Leave a Reply