سوريا تخرق عزلتها الإقليمية .. وتموضعات جديدة في المنطقة
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
قبل ثلاثة أيام من إعلان الرئيس دونالد ترامب عن البدء بانسحاب القوات الأميركية من سوريا، في «مفاجأة استراتيجية» قد تكون لها تبعات هائلة على التوزانات الإقليمية والدولية، كانت سوريا بدورها تحقق «خرقاً استراتيجياً» بزيارة أول رئيس عربي لدمشق منذ اندلاع الأزمة عام 2011.
تصدّر الرئيس السوداني المشهد مجدداً، وتحوّلت تحرّكاته إلى محط اهتمام عالمي، كما كانت حاله قبل سنوات، حين كان الكل يلاحق وجهات سفره، بحثاً عن «سبق صحافي» عنوانه: تنفيذ مذكرة اعتقال دولية بحق عمر حسن البشير في المطار الفلاني!
لكنّ الأمر هذه المرة كان مختلفاً، فعمر حسن البشير لم يعد، كما كان الوضع قبل سنوات، مطارداً بكابوس المحكمة الجنائية الدولية، بعدما اختار الاستدارة من «محور المقاومة» باتجاه «محور الاعتدال» الخليجي–الأميركي، وفق تسميات حقبة ما قبل «الربيع العربي».
المختلف في الأمر، أن جوهر الاهتمام بالتحرّك «البشيري» ليس الرجل نفسه، وإنما مضيفه، الرئيس السوري بشار الأسد، الذي كرّست زيارة نظيره السوداني بالنسبة إليه، أولى الخطوات العملية لانتصار دبلوماسي، بعد الانتصار في الميدان العسكري، عنوانه العريض فشل مشروع عزل سوريا!
إنهاء العزلة العربية
بشكل أساسي، ثمة فرضية يمكن الانطلاق منها لفهم توقيت الزيارة وأهدافها المحتملة، وخلاصتها أن شخصاً مثل عمر حسن البشير لا يمكن أن يبادر من تلقاء نفسه إلى خطوة على هذا القدر من الخطورة السياسية، والمقصود بها إنهاء العزلة العربية الرسمية لسوريا، وذلك لسببين أساسيين، أولهما الطابع الجماعي لقرار تعليق العضوية السورية في الجامعة العربية (مع الأخذ بالحسبان تحفظ لبنان والعراق والجزائر)، والثاني طبيعة التحالفات الحالية للرئيس السوداني، الذي اختار التموضع خليجياً، بعد استدارته عن إيران قبل ثلاث سنوات، لا بل مشاركته المباشرة في الحرب على اليمن كجندي مشاة في «التحالف السعودي».
وعلى هذا الأساس، لا يمكن تصور أن يقدم البشير على هذه الخطوة التي تعد خروجاً عن المألوف في الدبلوماسية السودانية، من دون التنسيق مع أطراف عربية فاعلة في الملف السوري، وترتبط بعلاقات وثيقة مع الخرطوم، مثل القاهرة والرياض وأنقرة، التي أقرّ وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو، من الدوحة، قبل أيام عن استعداد تركيا للتعامل مع بشار الأسد لو فاز في انتخابات ديمقراطية.
يعني ما سبق أن البشير تحرّك بناءً على أمر عمليات صادر من مكان ما.
بطبيعة الحال، لا يمكن النظر إلى الأمر باعتباره تحرّك وساطة بين الجامعة العربية وسوريا، قبل أسابيع قليلة من قمة بيروت الاقصادية، وبضعة أشهر من قمة تونس العادية. فالتراجع عن قرار تجميد عضوية سوريا لا بد أن يرتبط بإجراءات تتجاوز فكرة العلاقة الثنائية، باتجاه اقتراح مشروع قرار جديد –يُفترض، وفق المنطق العام، أن تقدّمه إحدى الجهات الأكثر حياداً، كالعراق أو الجزائر أو لبنان أو حتى مصر، التي تمتلك ثقلاً أكبر على المستوى العربي، قياساً إلى السودان.
كما يمكن الانتقال إلى لاعبين آخرين، هما السعودية وتركيا، اللتين أصدرتا مؤشرات إيجابية خلال الآونة الأخيرة بشأن العلاقة مع دمشق.
السعودية وتركيا
لا تخفى على أحدٍ، العلاقة الوثيقة بين البشير، الذي بات يؤدي أدواراً سعودية في الخفاء، ولعل أبرزها محاولة الوساطة بين الرياض وأنقرة عقب قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
وقد يكون وقوف السعودية وراء زيارة البشير إلى دمشق، رغبة من الرياض في فتح صفحة جديدة مع الرئيس بشار الاسد، بعدما أدركت فشل مشروعها السوري، الذي تمثل في الدعم الذي قُدم لفصائل المعارضة السورية المسلحة والتي فشلت في النهاية، وخرج الأسد منتصراً.
وتكتسب هذه الخطوة بعداً مهماً بالنسبة إلى السعودية في هذا التوقيت، خصوصاً بعدما باتت أمام عاصفة قوية دولياً بعد تورطها في اغتيال الخاشقجي، وهو ما ترجم قبل أيام بتمرير مشروع القرار في مجلس الشيوخ الأميركي بشأن مسؤولية محمد بن سلمان عن عملية الاغتيال، وغيرها من مشاريع القرارات ذات الصلة بحرب اليمن.
وبات واضحاً أن السعودية تسعى اليوم إلى احتواء العاصفة، عبر إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية، للتصدي لأي خطوة أميركية قد يترتب عليها فرض حصار أو عقوبات، وقد تكون استهدفت من خلال زيارة البشير تقديم أوراق اعتماد للرئيس فلاديمير بوتين، كخطوة إضافية لبناء الثقة، وذلك بعد خطوات سابقة، أهمها القرار المشترك بشأن حجم إنتاج النفط، بعيداً عن قرارات «أوبك»، والمصافحة الحارة بين الرئيس الروسي وولي العهد السعودي في قمة العشرين في الأرجنتين.
وأما اللاعب الثاني، أي تركيا، فيمتلك ما يكفي من أسباب لجعل البشير مرسالاً إلى دمشق، وجس نبض الرئيس السوري حول مدى استعداداه لفتح صفحة جديدة مع رجب طيب أردوغان.
وكما هي الحال في العلاقات السودانية–السعودية، فإنّ العلاقات السودانية–التركية في أفضل حال، وقد كرّستها زيارة تاريخية لرجب طيب أردوغان إلى الخرطوم، وهي لم تكف بدورها منذ فترة عن توجيه الرسائل –المتناقضة أحياناً– إلى القيادة السورية، وآخرها كلام مولود جاويش أوغلو في الدوحة، علاوة على رغبة تركيا أيضاً في تعزيز الثقة مع روسيا، في الميدان السوري بالذات، بعد تذبذب علاقتها هي الأخرى بالولايات المتحدة.
وقد تكون الزيارة قد تمت أصلاً بتنسيق روسي–تركي، ولعل ما يعزز هذا الاحتمال، الطائرة العسكرية الروسية التي أقلّت البشير إلى دمشق.
زيارات أخرى
بعيداً عن الجهة التي يمكن أن تقف وراء زيارة البشير، فإنّ الزيارة بحد ذاتها تعكس تحوّلاً كبيراً بالنسبة إلى سوريا، وهي الخطوة الأولى في عودة العلاقات بين الدول العربية، خصوصاً أن التوقعات تشير إلى احتمال أن تليها زيارات متعدّدة، تؤذن رسمياً بأن مشروع عزل سوريا قد سقط.
وإذا ما كانت الخطوة سعودية، فالترجمة السياسية لها هي أن ثمة تموضعات جديدة باتت المملكة راغبة في الذهاب إليها، ولو مكرهة، لا بل إن دمشق يمكن أن تشكل القاسم المشترك لتهدئة الوضع على خط الرياض–طهران، بما يؤثر على كافة ملفات المنطقة، من اليمن إلى لبنان.
أما إذا كانت الخطوة تركيا، فالأمر يكتسب دلالات لا تقل أهمية، وهي أن العلاقات السورية–العربية قد تتحول إلى عنصر تجاذب عربي، بعدما ظل لسنوات مدرجاً تحت عنوان «الإجماع العربي»، الذي من شأنه أن يجعل سوريا تستعيد دوراً إقليمياً افتقدته منذ الأزمة الحالية، وترك فراغاً هائلاً في منظومة العمل العربي، هو ما عبر عنه الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط نفسه حين أقرّ مؤخراً بأن «تسرّعاً قد حصل في إقصاء سوريا عن مقعدها».
Leave a Reply