تركيا تستخدم كل الأوراق في شمال سوريا
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
يوماً بعد آخر، تتأكد التوقعات من أن المراحل النهائية من الحرب السورية قد تكون الأكثر تعقيداً قياساً إلى ما سبقها.
هذا ما يظهره اليوم، اشتباك المصالح في الشمال السوري بين اللاعبين الرئيسيين، الروس والأميركيين والأتراك، في ظل تحوّلات ميدانية ومخططات قديمة–متجددة وحراك عسكري وأمني متحرّر من قواعد الاشتباك التي عرفتها تلك المنطقة الحساسة في سوريا منذ سنوات.
وإذا كان الأميركيون والروس يقاربون ملف الشمال السوري على طريقة لعبة الشطرنج، التي تتطلب في بعض الأحيان التريّث في تحريك البيادق، وفي أحيان أخرى الإقدام على تحريك مفاجئ لها، وذلك ضمن إطار استراتيجيات وتكتيكات عقلانية، فإنّ الأتراك، وكما يتضّح من حراكهم الأخير حول شرق الفرات، يقاربون المسألة على طريقة طاولة النرد، المولعين بها منذ أيام العثمانيين، بما تنطوي عليه تلك اللعبة من مجازفات، تصل إلى حد الخسارة مرّة واحدة!
على هذا الأساس، يبدو أن رجب طيب أردوغان اختار المغامرة مرّة جديدة، بتوسيعه الاشتباك السياسي–العسكري في الشمال السوري من اللعب مع الروس في إدلب، إلى اللعب مع الاميركيين في شرق الفرات في آنٍ واحد، دافعاً بمغامراته السورية التي تفاوتت مستوياتها بين المد والجزر طوال سنوات الصراع، إلى نقطة الذروة، التي يمكن أن يكسب فيها كل شيء… أو يخسر كل شيء.
هي إذاً مقامرة، يسعى من خلالها «السلطان العثماني» إلى استخدام كل الأوراق، حتى وإن خاطر بإحراقها جميعاً، في تحرّكات قد لا تقتصر مفاعيلها على الدور التركي في سوريا، وإنما على داخل تركيا نفسها.
رسالة داعشية
في خضم هذه الاندفاعة الخطيرة، أتى الهجوم الانتحاري في بلدة منبج شمالي سوريا ليثير، في توقيته، العديد من التساؤلات بشأن الجهة المستفيدة من هذا الحادث، لا سيما أنه أتى في خضم تحرّك حذر لتنفيذ انسحاب «حذر» من شمال سوريا، وتأهب تركيا للتواجد العسكري بحجة محاربة تنظيم «داعش» والجماعات الكردية التي تعتبرها إرهابية.
وقد أكدت القيادة الوسطى للجيش الأميركي مقتل أربعة أميركيين في هجوم منبج. وقالت القيادة في بيان، إن القتلى في التفجير الذي استهدف مطعماً، هم «جنديان وموظف مدني في وزارة الدفاع ومتعاقد»، وإن من بين الجرحى ثلاثة جنود أميركيين. وفي أول تعليق رسمي على الهجوم، قال نائب الرئيس مايك بنس الأربعاء الماضي إن الولايات المتحدة ستقاتل لتضمن هزيمة تنظيم داعش. إلا أنه جدد، في كلمة له أمام تجمع لسفراء الولايات المتحدة في العالم، تأكيد خطط سحب القوات الأميركية من سوريا.
ومن المؤكد، بحسب ما دلّت تجارب سنوات الأزمة السورية، وقبلها في أزمات أخرى، أن تحرّكات الجماعات التكفيرية، غالباً ما تترافق مع أجندات دولية، لتغيير المعطيات الميدانية أو السياسية القائمة، ولهذا فإنّ استشرافاً أولياً للجهات التي يمكن أن تكون قد وقفت أو سهّلت الهجوم «الداعشي» هي ثلاث لا رابع لها.
من يقف وراء الهجوم
أول أصابع الاتهام، في هذا الشأن يمكن توجيهها لتركيا، المعروفة بباع طويل في التنسيق الميداني والتناسق السياسي مع الجماعات التكفيرية في سوريا، بما في ذلك تنظيم «داعش» الذي سارع إلى تبني الهجوم الانتحاري الذي وصفته الصحافة الأميركية بأنه «أكبر هجوم تتعرض له القوات الأميركية في سوريا».
ثمة مستفيدون آخرون محتملون من العملية «الداعشية» أيضاً، فهناك دوائر القرار المحيطة بدونالد ترامب في البيت الأبيض، والمعارضة لقراره سحب القوات من سوريا. ومع ذلك، فإنّ عملية انتحارية بهذا الحجم الضخم ربما تجعل موقف الرئيس الأميركي أقوى، خصوصاً أن بعض المحللين في الولايات المتحدة، رأوا في قرار الانسحاب خطوة استباقية لعدم غرق اميركا في مستنقع جديد، كالمستنقع العراقي بعد غزو العام 2003، أو حتى لضربات موجعة كالتي تكبّدها الأميركيون في لبنان في ثمانينيات القرن المنصرم.
الأكراد نفسهم ربما تكون لهم مصلحة في تسهيل هجوم عفرين، خصوصاً أن الأيام القليلة الماضية شهدت تسريبات ميدانية عن ثغرات تعمدت «قوات سوريا الديموقراطية» إلى فتحها لمصلحة إرهابيي «داعش»، ومعلومات عن إخراج البعض منهم من السجون.
ومع ذلك، ثمة فرضيات عدّة تجعل تركيا المتهم الأول، فالهجوم أتى في خضم جدل بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن كيفية انسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا، والمحاذير التي تضعها ادارة دونالد ترامب على أنقرة في ما يتعلق بمهاجمة الوحدات الكردية.
صحيح أن رجب طيب أردوغان قد سارع بعد الهجوم إلى استنتاج مفاده أن الهجوم ربما كان يهدف إلى ردع الولايات المتحدة عن سحب قواتها، وتأكيده أن ترامب لن يتراجع عن قراره «في مواجهة هذا العمل الإرهابي»، إلا أن الهجوم «الداعشي» جاء بالفعل بعد أن أظهرت واشنطن ميلاً لاستبدال عملية انسحاب سريع بعملية متأنية تضع في حسبانها حماية الحلفاء الأكراد.
ولا يمكن تجاهل توقيت هجوم منبج المتزامن مع دفع ترامب باقتراح حصول تركيا على 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية كمنطقة آمنة تبعد عن حدودها الجماعات الكردية، على أن يقترن ذلك بتوفير الحماية للأكراد من احتمالية شن أنقرة لعمل عسكري ضدهم.
انطلاقاً من ذلك، يمكن افتراض أن تركيا، إن صحّ وقوفها وراء الهجوم، تريد أن تقول أن هذه «المنطقة الآمنة» التي تحدث عنها ترامب هي في الواقع «منطقة غير آمنة» بما يمنحها الحيثية لإطلاق العملية العسكرية التي بدأت تحشد لها حول منبج لبدء عمل عسكري ضد الوحدات الكردية.
الغريب في الأمر، أن تركيا تتحرك في هذا السياق ضمن ثقة مفرطة بالنفس، تدفعها إلى التخلي عن التوازن الذي اعتمدته خلال السنتين الماضيتين بين الولايات المتحدة وروسيا، والذي نجحت من خلاله في الحصول على الكثير من المكاسب من الطرفين.
المنطقة الآمنة
يبدو أن تركيا تضع نصب عينها، تنفيذ مقترح دونالد ترامب بإنشاء «منطقة آمنة» على الحدود الشمالية لسوريا بدعم من الولايات المتحدة، على مقاسها، وفي الوقت ذاته تثبيت أمر واقع مستقر في إدلب برضى الروس.
ولكن في إطار هذا التوجه، بدا مثيراً للانتباه أن التحرّك التركي بشأن شرق الفرات أثار حفيظة الأميركيين والروس في آن واحد، فقد نقلت وسائل الإعلام تسريبات عن عرض تقدمت به تركيا بشأن مناطق الشمال السوري، إلا أن موقف موسكو كان حازماً في الرفض، لا بل هددت في حال تنفيذ المقترح بالرد العسكري عليه، وهو أمر كشف، إلى جانب قضايا أخرى، وجود خلافات روسية–تركية غير معلنة، وهي تتعلق بعدم إيفاء تركيا بتعهداتها في ما يتعلق باتفاق سوتشي حول إدلب وتنفيذ التزاماتها بالنسبة للفصل بين القوى المسلحة في إدلب بين الجماعات التي توصف بالمعتدلة وبين جبهة النصرة.
لعل هذا ما يفسر شكوى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن التسوية السياسية في سوريا تسير ببطء أكثر مما كان مرغوباً فيه، لكن التقدم واضح في هذا المجال، وإيصاله رسالة واضحة للأتراك بشأن اهتمام موسكو بتنفيذ الاتفاق المبرم في أيلول الماضي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان بشأن وقف إطلاق النار في إدلب، ومذكراً في الوقت ذاته أن هذا الاتفاق «لا يقضي بمنح الإرهابيين حرية التصرف الكاملة».
ومما لا شك فيه أن الريبة الروسية تزايدت خلال الأيام القليلة الماضية، خصوصاً بعد خروج زعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني، الذي يتخذ من إدلب معقلاً لجماعته الإرهابية، برسالة تأييد للهجوم التركي على المقاتلين الأكراد، جاء ليؤكد مجددا الارتباط الوثيق وتقاطع المصالح بين الطرفين، الذي تجسد قبل أيام بصفقة مدوية في إدلب شمالي سوريا.
وبعد أيام على تسليم الفصائل السورية المسلحة الموالية لأنقرة، إدلب لـ«هيئة تحرير الشام»، إثر معركة وصفت بالمسرحية، خرج ليعلن الثمن الذي سيدفعه لتركيا في مقابل هذه الصفقة، بعبارات واضحة قال فيها: «نرى حزب العمال الكردستاني عدواً لهذه الثورة ويستولي على مناطق يقطن فيها عدد كبير من العرب السنة»، في ما يثير علامات استفهام إضافية حول مدى استعداد رجب طيب اردوغان إلى إعادة استخدام ورقة التكفيريين مرّة أخرى، من ضمن الأوراق الكثيرة التي يسعى لاستخدامها دفعة واحدة.
Leave a Reply