نبيل هيثم – «صدى الوطن»
يبدو الاختيار موفقاً من حيث رمزيته ولكنه يعكس في الوقت ذاته إفلاساً في مقاربة السياسة الخارجية الأميركية.
«حلف وارسو»، الذي قررت الولايات المتحدة إعادة إحيائه على مقاسها، ليكون مجلس حرب ضد «الخطر الإيراني» الذي ما زالت عصية على التعامل معه، بات يمثل واحدة من محطات التصعيد الأكثر تقدماً في السياسة العدوانية الأميركية ضد الجمهورية الإسلامية، ومعها الكثير من «أعداء» أميركا.
في الظاهر، يندرج عنوان التحرك الأميركي في سياق حشد «الحلفاء» ضد إيران. ولعل في اختيار وارسو مكاناً لإطلاق الحلف المزمع تشكيله منتصف الشهر القادم، ما يحوي على دلالة رمزية، فالحلف العسكري «الشيوعي» الذي أنشأه الاتحاد السوفياتي المنحل زمن الحرب الباردة، حمل اسم هذه المدينة، وظل عنواناً لـ«الحرب الباردة»، إلى أن تمّ حله بأمر دُبر بليل، من قبل الرئيسين ميخائيل غورباتشوف ودونالد ريغان في أواخر الثمانينيات.
هكذا يُراد للحلف الجديد أن يكون ضد العدو «الشيعي» بدل العدو «الشيوعي» هذه المرة، ومن أجله تحركت الدبلوماسية الأميركية في نشاط محموم، منذ مطلع العام الحالي، اختزلت الأسبوع الماضي بسيل التصريحات والمواقف المعادية لإيران، بلغت ذروتها في خطاب وزير الخارجية مايك بومبيو في الجامعة الأميركية في القاهرة، والذي شكل انقلاباً على خطاب الرئيس السابق باراك أوباما من المنبر ذاته في العام 2009.
في هذه الجزئية، يواصل ترامب إظهار هوسه في الانقلاب على سياسات باراك أوباما، وهو ما عكسته الكثير من تحركاته التي تتجاوز الملف الإيراني، ويبدو أن هذا الهوس مرشح للتصاعد، مع بدء العد العكسي للانتخابات الأميركية.
«فوبيا» إرث أوباما باتت من دون أدنى شك، المحرّك الأول لقرارات ترامب التي بلغت ذروتها في الانسحاب أحادي الجانب من «الاتفاق النووي»، والمحاولات الفاشلة لتشكيل ما يعرف بـ«الناتو العربي».
ليست أول مرة
المفارقة الكبرى أن فكرة تشكيل التحالفات ضد إيران ليست بالأمر الجديد، فقد سعت الولايات المتحدة إليها منذ قيام الجمهورية الإسلامية، وهي محاولات أثبتت في كل مرة فشلها، وهي اليوم تقترب أكثر فأكثر من الفشل نتيجة ظروف خاصة بالولايات المتحدة نفسها من جهة، وبالتغيرات الكبرى في المشهد الدولي من جهة ثانية.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ثمة معضلة لم تعد خافية على أحد في المواجهة مع إيران، وهي أن إدارة ترامب تريد ان تحقق هدفاً «طموحاً» يتمثل في جعل الجمهورية الإسلامية ترفع الراية البيضاء من خلال تشديد الضغوط الاقتصادية عليها، وهي سياسة أثبتت فشلها خلال العقود الأربعة المنصرمة، حتى في ذروة مرحلة العزلة السابقة لتسوية فيينا النووية.
في الوقت ذاته، فإنّ ادارة ترامب تدرك جيداً أن العمل العسكري المباشر ضد إيران لن تكون نتائجه مضمونة، فالقدرات العسكرية الإيرانية تتنامى يوماً بعد يوم، وإقفال مضيق هرمز ما زال يعد من بين السيناريوهات المثيرة للقلق بالنظر إلى تداعياته الكارثية على الاقتصاد العالمي، ناهيك عن أن المناخ الدولي من ناحية، والمزاج الأميركي من ناحية أخرى، يعتبران اليوم من عوامل الكبح الهائلة لأية نزعة عدوانية مباشرة.
بذلك، ليس أمام دونالد ترامب اليوم سوى الذهاب إلى تجربة جديدة في تشكيل «التحالفات»، ولكن الأمر يبدو هذه المرة أكثر صعوبة وتعقيداً.
حلفاء غير متحمسين
من المؤكد أن ثمة نظرة أميركية واقعية تدرك أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الوحيد في الشرق الأوسط، فقد دخلت روسيا بكل قوتها العسكرية والديبلوماسية في المعادلة الإقليمية، إلى جانب إيران التي باتت ترتبط معها بشراكة استراتيجية، فيما تبرز الصين أيضاً كظهير اقتصادي وعسكري وسياسي قوي لهذا التحالف. على هذا الأساس، يمكن افتراض أن الهدف الأكبر من «حلف وارسو» الجديد هو تشكيل حلف معكوس لذلك الحلف الذي كان يعد، القوة الضاربة للاتحاد السوفياتي.
بهذا المعنى، يمكن اعتبار «حلف وارسو» بنسخته الأميركية موجهاً أكثر نحو روسيا منه نحو إيران، وإن كانت الأخيرة تشكل العنوان المركزي للتحرك الأميركي.
ما يؤكد هذا الواقع، هو أن الملف الإيراني بعد تسوية فيينا لم يعد هو نفسه ذلك الملف الذي يحظى بتوافق دولي، فإيران لم تنجر إلى الفخ الأميركي، وما زالت متمسكة بالاتفاق النووي، وهو ما يجعل حلفاء أميركا الأوروبيين أكثر تحفظاً في تبني طروحات دونالد ترامب.
انطلاقاً من ذلك، لم يكن مفاجئاً ما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية من أن بعض الدول الأوروبية تتجه إلى عدم المشاركة في اجتماع وارسو «بسبب عدم وضوح الأهداف».
على هذا الأساس، فإنّ الأوروبيين لن يشاركوا بسبب اختيار واشنطن، وارسو، مكاناً لانعقاد القمة، «كمحاولة لشق الصف الأوروبي»، وذلك بحسب ما نقلته الصحيفة عن مصادر أوروبية، مشيرة إلى أن «الاتحاد الأوروبي لن ينضم إلى تحالف ضد ايران».
حلفاء أميركا في الشرق الأوسط أنفسهم لم يبدوا حماسة كبيرة تجاه الدعوة الأميركية إلى الحلف الجديد، وهو ما تبدى في المواقف الباهتة التي خرجت عن اللقاءات التي أجراها مايك بومبيو في جولته الشرق أوسطية، فالسعودية على سبيل المثال تبدو اليوم أكثر حذراً في تعاملها مع الولايات المتحدة، لا سيما بعد التوتر الناجم عن قضية الصحافي جمال خاشقجي، في حين أتت خطوة قطر في المشاركة في قمة بيروت العربية مناقضة للمسعى الأميركي نحو إفشالها، في وقت لا تزال تركيا تبدي حرصاً أكبر على تعزيز علاقاتها مع روسيا، برغم كل محاولات دق الاسفين بين الجانبين، من خلال قرار الانسحاب الاميركي من سوريا.
وبالرغم من أن بعض الدول العربية ستكون حاضرة في وارسو، سواء مجبرة أو نتاجاً لمصلحة ما، إلا أن الحقائق الموضوعية تجعلها غير معنية بالذهاب نحو خيارات متطرفة، فالإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الصامتة التي بدأت تشهدها دول الخليج، لن تكون بصدد الامتثال للعقوبات على إيران بحكم العلاقات الاقتصادية المتشابكة معها، وهو ما ينطبق على قطر التي تربطها بإيران علاقات اقتصادية كبيرة، علاوة على التقارب الناجم عن أزمة الحصار المفروض عليها من قبل كل من السعودية ومصر والبحرين والإمارات.
أما الكويت وسلطنة عمان فقد نأتا بنفسيهما عن صراع السعودية مع إيران وترتبط بالأخيرة بعلاقات حسن جوار، وهما غالباً ما يبديان تحفظاً تجاه محاولات حصار إيران.
أما بقية الدول العربية، فقد تلتزم بالعقوبات الأميركية ضد إيران، لكن التزامها يبقى عديم الجدوى بالنظر إلى الحجم المتدني للعلاقات التجارية والاقتصادية بينها وبين الجمهورية الاسلامية.
إسرائيل
وطالما أن مصير «حلف وارسو» الفشل، وفق المؤشرات الأولية، فإنّ السؤال الأهم يبقى في المقاربة الأميركية المحتملة للوضع في الشرق الأوسط، خصوصاً أن دونالد ترامب سيكون بحاجة إلى انتصار خارجي ما، يخوض به انتخابات الرئاسة المقبلة.
بناءً على ما سبق، فإنّ فشل «حلف وارسو» ربما يكون في الواقع ضوءاً أخضر لتصعيد عسكري، من المؤكد أنه لن يستهدف إيران مباشرة على أراضيها، وقد لا تنخرط فيه الولايات المتحدة بالشكل المباشر.
هذا ما يقود إلى رصد التحركات الاستفزازية الأخيرة من جانب إسرائيل، سواء في استئنافها للغارات الجوية على سوريا، أو في توتيرها للهدوء السائد على الجبهة مع لبنان.
هذه التحركات تدفع الكثير من المراقبين إلى توقع مواجهة كبرى بين إسرائيل وإيران في سوريا، قد تنتقل إلى مستوى أكثر خطورة في حال امتدادها إلى لبنان، أو مناطق أخرى، بصورة تهدد باندلاع مواجهة إقليمة واسعة.
قد تكون حرب كهذه، الملاذ الأخير لترامب لكي ينهي ولايته الرئاسية (الأولى أو ربما الوحيدة) بإنجاز ما يمكن استثماره داخلياً، ولكن خياراً كهذا يبدو أقرب إلى المقامرة، خصوصاً أن تداعيات حرب كهذه لن يكون من السهل توقعها. هذا الأمر يدركه الأميركيون جيداً، وربما يكون التحرّك الأخير باتجاه فنزويلا محاولة متقدمة للبحث عن انتصار ملموس بعيداً عن رمال الشرق الأوسط المتحركة.
Leave a Reply