نبيل هيثم – «صدى الوطن»
محقاً كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في تسميته الاجتماع الدولي الذي دعت إليه الولايات المتحدة في عاصمة بولندا بـ«سيرك وارسو»، فالدبلوماسية الأميركية التي استنفرت منذ مطلع العام الحالي، فبعثت بجون بولتون، ثم بكل من مايك بومبيو ومساعده ديفيد هيل إلى الشرق الأوسط، بدت أشبه بلجنة علاقات عامة فاشلة، تسعى إلى دعوة الحلفاء إلى حلف غير مقدّس… لمجرّد التقاط الصورة!
يوماً بعد يوم، ينخفض سقف التوقعات، بما في ذلك في الأوساط الأميركية، إزاء اجتماع وارسو، الذي يفترض أن تنظمه الولايات المتحدة في منتصف شهر شباط (فبراير)، والذي دعت إليه أكثر من 70 دولة، لمناقشة قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها «الخطر» الإيراني، والوضع في سوريا، وآفاق التسوية الفلسطينية المسدودة.
في الشكل، والمضمون، يبدو الاجتماع بحد ذاته مجرّد محاولة جديدة لكي تقول الولايات المتحدة لحلفائها: «لا تقلقوا… ما زلنا إلى جانبكم»!
حتى اختيار وارسو مكاناً للاجتماع بدا كاشفاً عن طابعه الاستعراضي، فالبرغم من أن الولايات المتحدة أرادته مكاناً ذات طابع رمزي لحلفها الجديد –بالنظر إلى ارتباط العاصمة البولندية سابقاً بالحلف السوفياتي المناهض لـ«حلف شمال الأطلسي» (ناتو)– سرعان ما اتضحت إحدى حيثياته الحقيقية، حين تكشّف أن دونالد ترامب أراد إبعاد الحرج عن أية دولة عربية لاستضافة لقاء كهذا، بعد سنتين على استقباله في السعودية كقائد لمحور جديد ضد إيران، والحديث عن «ناتو عربي» تبيّن أنه مجرّد حلف استعراضي لم يتبق منه سوى مشهد وحيد، وهو تلك «البلورة السحرية»، التي وضع الملك سلمان وترامب، أيديهما عليها، ومعهما عبد الفتاح السيسي، لإطلاق ما سمّي بـ«المركز العالمي لمكافحة الإرهاب»، الذي لا أحد يعلم ماهيته، أو ما أنجزه حتى الآن.
فتور أوروبي
لم يكن مفاجئاً، التردد الأوروبي تجاه اجتماع وارسو، والذي ستتراوح ترجمته العملية بين غياب بعض الدول الأوروبية، أو تدني تمثيل بعضها الآخر، خصوصاً أن أيّاً من الأوروبيين ليس مستعداً اليوم للمخاطرة في ما تحقق من إنجازات دبلوماسية –وبطبيعة الحال من رهانات إقتصادية– مع إيران، يوم وقع الاتفاق النووي، الذي وضع ترامب نصب عينيه، تدميره منذ حملته الانتخابية.
هذا الفتور الأوروبي، ربما يفسر سيل التصريحات الأميركية بشأن طبيعة اجتماع وارسو، والتي بدت أقرب إلى استجداء للأوروبيين للحضور، والتي تناقض بشكل كبير ما قيل في جولة بومبيو. وبعدما كان الحديث يدور على لسان وزير الخارجية الأميركي عن هدف أساسي يتمثل في «مواجهة نفوذ إيران والإرهاب في الشرق الأوسط»، انخفض السقف بشكل ملحوظ، حين قال المندوب الأميركي بالوكالة لدى الأمم المتحدة جوناثان كوهن، إن الاجتماع لا يستهدف «شيطنة إيران»، واصفاً إياه بأنه مجرّد «جلسة عصف ذهني أوسع بشأن الشرق الأوسط».
البيان الرسمي الأميركي الخاص بالدعوة، بدوره، لم يأتِ على ذكر إيران، حيث اكتفى بالإشارة إلى «الإرهاب والتطرّف، وتطوير الصواريخ وانتشارها، والتجارة البحرية، والأمن، والتهديدات التي تشكلها المجموعات التي تحارب بالوكالة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط».
إيران والوجود الأميركي في المنطقة
حتى الاستخبارات المركزية الأميركية دخلت على خط التهدئة، حيث قالت مديرة «سي آي أي» جينا هاسبل «إن إيران ملتزمة حتى اللحظة الحالية ببنود الاتفاق النووي»، وإن أشارت إلى أن طهران «تدرس خطوات لتخفيض هذا الالتزام والتراجع عنه»، وذلك في سياق المحاكمات الأميركية المعروفة على النوايا.
وإذا كان الحديث عن «الخطر الإيراني» قد تراجع عن لائحة أولويات اجتماع وارسو، فإنّ الملفات الأخرى، التي تمّ الترويج لها، ليست أفضل حالاً.
وبحسب ما كان معلناً من قبل الدبلوماسيين الأميركيين خلال جولة مايك بومبيو الشرق أوسطية، فإنّ الملف السوري كان يفترض أن يكون حاضراً بقوة على جدول الأعمال.
ولعل الجانب الأساسي في هذا البند، كان يتمثل في السعي الأميركي لطمأنة «الحلفاء» بشأن قرار ترامب حول سحب الجنود الأميركيين من شمال سوريا، والذي ما زال موضع جدل حاد في الداخل الأميركي، ليس على مستوى الثنائية الجمهورية–الديمقراطية فحسب، بل على مستوى الفريق الرئاسي نفسه.
ومما لا شك فيه أن «حلفاء واشنطن» الإقليميين قد أربكهم هذا القرار، لما ينطوي عليه من إعادة خلط للأوراق، لا سيما أن «الفراغ» الأميركي في سوريا يترك الساحة مشرعة للاعب دولي وحيد، هو روسيا.
وإذا كان المأمول من اجتماع وارسو إقحام روسيا في تسويات على مقاس السياسة الأميركية، فإن القرار الحاسم الذي صدر من موسكو بمقاطعة هذا الاجتماع، أقفل الباب بشكل قاطع أمام أية محاولات أميركية للضغط باتجاه خيارات محورية في الملف السوري، بحيث لن يتجاوز الحديث في هذه القضية سوى التطمينات الأميركية لمعسكر «الحلفاء» بشأن النوايا الحقيقية وراء الانسحاب، والقول إن أميركا ستبقى حاضرة في الشرق الأوسط بقوّة، وهو أمر بات موضع شك لدى الكثيرين، حتى على مستوى الدول الخليجية التي تعرّت السياسة الأميركية تجاهها، يوم أخفقت في إيجاد تسوية للخلاف السعودي–القطري، برغم كل الجهود التي بذلت في هذا الإطار.
امتداداً لفراغ جدول الأعمال، فإنّ مقاطعة روسيا لاجتماع وراسو، وفتور الأوروبيين تجاهه، يجعلان الحديث عن محاولات أميركية لاستئناف عملية التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، أمراً غير واقعي، ما يعني أنّ حملة العلاقات العامة التي تسعى إليها واشنطن لـ«صفقة القرن» ستكون بلا معنى، ليقتصر البحث فيها على إسرائيل التي يحضر رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو الاجتماع الأميركي، وبعض الدول العربية التي لا تجد، أصلاً، حرجاً في تبني هذا الاقتراح.
فشل قبل أن يبدأ
كل ذلك يبدو كافياً بأن اجتماع وارسو فشل قبل أن يبدأ، فهو لن يكون سوى منتدى نقاش، شأن كافة المنتديات الدورية وغير الدورية المعروفة، من دافوس إلى ميونخ، ما يجعله عاجزاً عن تأمين هدفه الأميركي الداخلي والمتمثل في سعي ترامب إلى إقحام معارضيه، قبل سنتين من موعد الانتخابات الرئاسية، بأن سياسته الخارجية ليست فاشلة أو متخبطة كما يتهمه خصومه.
من هنا، يمكن فهم الاندفاعة الأميركية الجديدة باتجاه التصعيد في بقعة أخرى من العالم، أي في أميركا اللاتينية، حيث يبدو ملفتاً التوازي بين الانسحاب التكتيكي الأميركي من الشرق الأوسط، والهجوم الحاد ضد فنزويلا التي تحوّلت سريعاً إلى جبهة جديدة في الحرب الباردة بنسختها الجديدة، والتي تخوضها الولايات المتحدة ضد روسيا والصين.
ويبدو واضحاً، بحسب ما يشي تسلسل الأحداث في هذه الدولة اللاتينية، أن الولايات المتحدة نقلت تركيزها من الشرق إلى الغرب، حيث ثمة فرصة لتحقيق إنجاز ما، يخدم السياسة الخارجية لدونالد ترامب، خصوصاً أن المصالح الأوروبية باتت متقاطعة إلى حد كبير مع المصالح الأميركية في ما يتعلق بضرورة توجيه الضربة الأخيرة للمعسكر اليساري الحاكم في كاراكاس، وهو ما يتبدى في تماهي الموقفين الأميركي والأوروبي حول الاعتراف بخوان غوايدو رئيساً انتقالياً لفنزويلا، بدلاً من نيكولاس مادورو، بخلاف الموقفين المتناقضين إزاء القضايا الشرق أوسطية، وفي القلب منها الملف النووي الإيراني.
Leave a Reply