حسن أحمد عبدالله
يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية دخلت مع الرئيس دونالد ترامب عصر الانسحاب من بؤر التوتر التي تستنزف مقدراتها، فالإعلان عن الخروج من سوريا، رغم رمزية القوات الموجودة فيها، هو عنوان كبير لانسحابات أخرى من مناطق شكلت طوال عقدين من الزمن اهمية سياسية وأمنية كبيرة لواشنطن، لاسيما بعد التوصل إلى مسودة الاتفاق مع حركة طالبان في المفاوضات التي جرت بالعاصمة القطرية، الدوحة.
في الجوهر يبدو مشروع الاتفاق اعترافاً أميركياً بهذه الجماعة المدرجة، أقله أميركياً، على قائمة الارهاب، أي اعتراف ضمني بالهزيمة بعد 18 عاماً من حرب ضروس معها في بلد طالما اعتبرته الإدارات الأميركية بؤرة ارهابية.
الخطوة الأميركية لا شك أنها مقدمة لمفاوضات مع جماعات أخرى في مناطق تنتشر فيها قوات أميركية، أكان في العراق حيث تجري لعبة عضّ أصابع غير مباشرة بين واشنطن وطهران، أو في سوريا التي خسرت فيها الولايات المتحدة جماعات عدة كانت تراهن عليها لقيادة مستقبل هذا البلد. وإن هذا الانسحاب الأميركي من مناطق محددة يبدو في الشكل أنه لا يخدم مصالح الولايات المتحدة، لكنه في المضمون يؤدي خدمة كبيرة للتيار المؤيد لترامب داخلياً، لأنه يحقق مطلباً شعبياً بشأن إنهاء «الموت المجاني للجنود الأميركيين لحماية أنظمة ودول استبدادية، أو مصالح تلك الدول، بينما لا تستفيد الولايات المتحدة أي شيء من ذلك».
هذا ما تحدثت به مجموعة كبيرة من السياسيين الذين ايدوا إعلان الرئيس السابق باراك أوباما الانسحاب من العراق، وتعاطوا بحذر كبير مع نشر مجموعات رمزية من القوات في سوريا خوفاً من أن يتحول ذلك انزلاقاً في حرب أهلية لا تفيد المصالح العليا الأميركية، وهذا باعتراف ترامب نفسه حين قال: «لا مبرر للبقاء في سوريا لأن ليس ثمة ثروات فيها تستحق البقاء… فأرضها رمال وموت».
في هذا الشأن، وخصوصاً في ما يتعلق بالشرق الأوسط، يبدو الرئيس ترامب يعمل وفقاً للقاعدة التي أرساها سلفه السابق باراك أوباما في مقابلته المطولة مع مجلة «أتلانتك» في العام 2016 إذ قال: «إن التوسع في الشرق الأوسط سيؤذي في النهاية اقتصادنا وقدرتنا على البحث عن فرص أخرى والتعامل مع تحديات أخرى، أكثر أهمية، وتهدد أرواح الجنود الأميركيين، لأسباب ليست داخلة في مصلحة الأمن القومي الأميركي المباشرة».
الشرق الأوسط منطقة واسعة، تختلف التوصيفات الجغرافية لها بين أصحاب المفاهيم السياسية، ولهذا فان توسيع قاعدة الانسحابات الأميركية ليضم المحيط الاوسع لهذه المنطقة، أي أفغانستان ربما ينطوي على مغامرة إذا اعتبر الوجود الأميركي في تلك الدولة فك الكماشة الآخر لمحاصرة إيران، لأن في المقابل هناك القواعد الأميركية في الخليج العربي، إضافة إلى القاعدة الأميركية في تركيا، لكن السؤال: هل إيران مدرجة فعلا على جدول العمليات العسكرية الأميركية، أم أن الضغط الحاصل اليوم وصل إلى حده الأعلى؟
إلى اليوم ليست هناك أية مؤشرات جدية على مواجهة عسكرية محتملة بين الولايات المتحدة وإيران، واستناداً إلى المؤشرات الاقليمية فإن مؤتمر وارسو المزمع عقده في النصف الأول من شهر شباط (فبراير) المقبل سيكون عنواناً كبيراً لتحالف جديد لمواجهة إيران، لكن قبل ذلك لا بد من إخماد بؤر توتر أخرى يمكن أن تستفيد منها إيران في المنطقة، مثل سوريا واليمن ولبنان وأفغانستان، إذ لا يمكن أن تخوض دول التحالف الجديد حرباً من هذا النوع بينما هناك نوافذ تهديد لأمنها القومي مفتوحة عليها، في الوقت الذي تجري فيه مفاوضات غير مباشرة بين طهران وواشنطن في مسقط، ما يعني أن الحل السياسي ربما يتقدم على الخيار العسكري، وبهذا يكون دونالد ترامب قد أكمل تمهيد الطريق إلى ولاية جديدة من دون إراقة دماء أميركية على رمال الشرق الأوسط.
Leave a Reply