نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مؤتمر وارسو .. فالصو.
هو التوصيف الأكثر دقة لهذا المؤتمر الدولي. و«فالصو» بالتعبير اللبناني تعني أنه فارغ ولا قيمة له أو مضمون، يعني أن وجوده مثل عدمه.
أرادوه منصّة لإطلاق جبهة إقليمية–عالمية ضد إيران، فجاء مجرّد منبر خطابي لتحريض كلامي ممل، لا يجد اليوم صدىً حتى لدى حلفاء أميركا، الذين دشنوا قبل أيام أول قناة خلفية للتعاملات المالية مع الجمهورية الإسلامية في مواجهة العقوبات الأميركية.
أرادوه أيضاً «مؤتمراً للسلام في الشرق الأوسط»، فجاء مجرّد حفلة علاقات عامة، ينبري فيها الأميركيون لتسويق «صفقة القرن» وسط تهافت المسؤولين الخليجيين لتثبيت تطبيعهم مع إسرائيل، من البوابة الخلفية للفندق الذي ينزل فيه بنيامين نتنياهو.
هكذا تحوّل «مؤتمر وارسو» الذي ضم ممثلين عن 60 دولة، إلى ما يمكن تسميته بـ«مؤتمر فالصو»، ليبدو أقرب في مستواه إلى لقاء هامشي لا يرقى إلى حجم الدعاية المحيطة به.
ولد ميتاً
«مؤتمر وارسو ولد ميتاً»، هكذا وصفه محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران، التي تعاملت منذ البداية ببرودة شديدة مع الحدث، خصوصاً بعدما تلمّست الفتور الذي قوبل به من جانب الأوروبيين، الذين تدنى حضورهم إلى ما دون الوزاري، ومقاطعة روسيا، التي اختارت سلوك مسار مضاد، باستضافتها الفصائل الفلسطينية.
الفشل المسبق يمكن رصد أول أسبابه في أن الولايات المتحدة ما زلت مصرّة على إنكار حقيقة أنها لم تعد القاطرة الأحادية للنظام العالمي، وهذا الإنكار يجعلها ماضية قدماً في تجاهل وجهة نظر أقرب حلفائها، أي الأوروبيين.
وبات معروفاً أن الولايات المتحدة وأوروبا تتبعان مبدئياً نهجاً مختلفاً في التعامل مع إيران، وهو ما يظهر جلياً في الاتفاق النووي، الذي تخلت عنه إدارة الرئيس دونالد ترامب من جانب واحد العام الماضي، وأطلقت من خلال عقوبات اقتصادية حملة «الضغط الأقوى» ضد الجمهورية الإسلامية، في حين أن دول الاتحاد الأوروبي ما زالت تراهن على الحوار، لا بل إنه يحاول العمل بعيداً عن مزاجية الأميركيين عبر تقديم تحفيزات لإيران، كان آخرها القناة الخاصة بالتعاملات المالية بعيداً عن الدولار.
هكذا، بات «مؤتمر وارسو» حدثاً عابراً، ينتهى بمجرّد التقاط الصورة التذكارية، التي بات ممكناً لبنيامين نتنياهو التباهي بها، وتصويرها على أنها اختراق جديد لجدار المقاطعة العربية، وهو اختراق لم يكن في حاجة إلى أن ينتقل والخليجيين إلى العاصمة البولندية، بعدما باتت اللقاءات التطبيعية أكثر من طبيعية، سواء تحت الطاولة وفوقها».
بطبيعة الحال، فإنّ الأميركيين، ومن معهم في وارسو، يبدون بعيدين كل البعد عن التوجهات البراغماتية التي تشكل ديناميات الدبلوماسية الأوروبية، ولذلك فإنّ أحداً في «مؤتمر اللون الواحد»، كما وصفه بعض المعلقين، يرغب في مجاراة الأوروبيين في تكريس سياسة «السلام النووي»، الذي ما زالت طهران ملتزمة بتحقيقه، بشهادة المنظمة الدولية للطاقة الذرية التي أكدت في 13 تقريراً، كان آخرها في تشرين الثاني الماضي، التزام وفاء إيران بتعهداتها النووية، وهو ما أكده مؤخراً مدير الاستخبارات الأميركية دان كوتس.
روسيا وعملية السلام
بهذا المعنى، يصح وصف «مؤتمر وارسو» بأنه لقاء دعائي، ليس أكثر، وشعار «السلام في الشرق الأوسط» الذي يحمله، لا ترجمة فعلية له، طالما أن أسس التسوية، بنسختها الأميركية، توقفت بالنسبة إلى الفلسطينيين، والعرب المؤثرين في المعادلة، عقب قرار ترامب بشأن القدس، والذي شكل في واقع الأمر تمريرة غبيّة لصالح الروس، الذين باتوا يطرحون أنفسهم الوسطاء الأكثر جدية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو ما يعكسه الحراك الدبلوماسي الدائر في موسكو حالياً في هذا الصدد.
بذلك، يصبح «سلام وارسو» محاولة بائسة لتسويق أفكار جاريد كوشنر، صهر ترامب والرجل الأكثر تأثيراً في البيت الأبيض، بشأن ما يسمّى بـ«صفقة القرن»، التي لا تبدو حتى الآن خياراً واقعياً، قابلاً للتوافق أو حتى التنفيذ، برغم الموافقة الضمنية للخليجيين عليه، وتقديم بعضهم مقترحات تزايد على المقترحات الإسرائيلية نفسها (صفقة ابو ديس مقابل التي طرحها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مثالاً).
ولعلّ القاصي والداني يدركان أن صفقة كهذه لا يمكن أن تمرّ، حتى وإن ذهبت الدبلوماسية الخشنة للولايات المتحدة فيها حتى النهايات، فالمواقف بشأنها ما زالت تتفاوت بين الرفض التام (من روسيا، مروراً بالسلطة الفلسطينية، وصولاً إلى مصر)، وبين البرودة (الموقف الأوروبي تحديداً)، فضلاً عن أن أمراً كهذا لا بد أن يحتاج إلى راعٍ أو مسوّق إقليمي على غرار تركيا، التي غابت عن «مؤتمر وارسو» على خلفية النفور الذي تسببت به إدارة ترامب، وكذلك الأزمة القائمة مع السعودية على خلفية حصار قطر وقضية جمال خاشقجي.
فشل ذريع
الحديث عن فشل مسبق لـ«مؤتمر وارسو» يشكل اليوم العنوان الوحيد لكل ما يتناوله الإعلام، سواء الأميركي أو الإسرائيلي، ولعل هذه الأجواء يمكن اختزالها بمقالين أولهما في دورية «نيو ريبليك»، حيث رأت الخبيرة في «مؤسسة راند» البحثية داليا داسا كاي أن «إدارة ترامب لم تستفد من تجارب الماضي عند التخطيط لمؤتمر وارسو، فقبل ثلاثين عاماً قاد وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر جهودا كبيرة لجمع أطراف النزاع العربي الإسرائيلي في مؤتمر مدريد، لكن طريقة إعداد المؤتمر وتحديد أهدافه لا يمكن إلا أن ينتج عنه إلا الفشل».
وأما الثاني، ففي صحيفة «هآرتس»، حيث انتهى عمير تيبون إلى خلاصة مفادها أن «صفقة القرن» لن تعقد بين الإسرائيليين والعرب، وإنما بين نتنياهو وقوى اليمين المتطرف الإسرائيلي، حيث سيحمي نتنياهو مستوطنات اليمين الإسرائيلي كي يدعمه أمام ما يتعرض له من اتهامات ومخالفات قانونية وقضائية.
ماذا أراد الأميركيون؟
الحد الأدنى الذي أراده الأميركيون من «مؤتمر وارسو»، هو طمأنة «الحلفاء» بأن الولايات المتحدة ستبقى واقفة إلى جانبهم، برغم التحوّلات التي ضربت المشهد الشرق أوسطي منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، تقابله الكثير من الوقائع التي تدفع إلى تعزيز مخاوف هؤلاء «الحلفاء»، فقد بات واضحاً للجميع أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يشوبها الارتباك وعدم الوضوح.
هذا الارتباك يتبدّى اليوم في ميدانين، الأول إيران حيث من المؤكد أن ما سيسمعه عرب الخليج على لسان المسؤولين الأميركيين لن يرقى إلى مستوى طموحاتهم، فالولايات المتحدة، وعلى لسان وزير خارجيتها، أكدت أنها لن تشن حربا على إيران، ولن تدخل بمعركة عسكرية معها، بل ستكون المعركة سياسية واقتصادية، وبالتالي فقد كان واضحاً أن «حلف وارسو»، وإن تشكّل، فلن يتجاوز الإطار السياسي–الإعلامي، وإلى حد ما الاقتصادي.
أما الميدان الثاني، فهو سوريا حيث ظلت الإدارة الأميركية تؤكد بقاء جيشها هناك، طالما بقي وجود للقوات الإيرانية، وهو ما نقضه ترامب بقرار الانسحاب، على النحو الذي أربك الكل، ابتداءاً من حلقة صناعة القرار في البيت الأبيض، وصولاً إلى قادة الخليج وإسرائيل.
على هذا الأساس، يمكن القول، وبكل ثقة، إنه إذا كان عقد «مؤتمر وارسو» يهدف إلى توجيه رسالة إلى «الحلفاء» بأن إدارة ترامب لا تزال منخرطة في الشرق الأوسط فإنّ قرار الانسحاب من سوريا قد تم، وقد يبدأ تنفيذه خلال أيام، ولا يبدو أن ثمة تغييراً في المقاربة الأميركية حول «ردع إيران».
برغم ما سبق، فإنّ المفارقة الكبرى تبقى في إصرار الدول العربية، لا سيما الخليجية منها، على التهافت إلى تقديم أوراق الاعتماد لأصحاب الدبلوماسية الفاشلة، التي باتت السمة التي يطلقها حتى الأميركيون أنفسهم على سياسات ترامب، والذهاب نحو رهان خاسر على إدارة أميركية تقترب من نهاياتها، بعد عامين على أبعد تقدير (إذا ما استمرت المؤشرات السياسية الخاصة بشعبية الجمهوريين في مسارها الانحداري حتى انتخابات العام 2020)، أو ربما قبل ذلك (إذا ما نجحت جهود الديموقراطيين المستميتة لعزل ترامب على خلفية التدخلات الروسية المزعومة في الانتخابات الرئاسية الماضية).
وإذا كان الفشل هو السمة الغالبة لدبلوماسية ترامب، فإنّ الغباء هو الصفة الأكثر التصاقاً بسياسات الأنظمة العربية التي تنتقل من موقع «الحليف» للولايات المتحدة إلى موقع «الشريك» لترامب، بكل ما يعنيه هذا التحول من مخاطر سياسية تتجازو نتائجه ما حدث في آخر أيام باراك أوباما.
Leave a Reply