عباس الحاج أحمد – «صدى الوطن»
يُحتفى عادة بأصحاب الأثر الجميل. وتحفظ مكانتهم في التاريخ بتمثال، أو احتفال سنوي أو حتى بفيلم سينمائي. إلا أن البعض، لا يحتاجون سوى للكلمة. أحرف فقط، تضيء على مسيرتهم وتحفظ أعمالهم وتُلهم الأجيال.
أقيم يوم الأحد الماضي في «المركز الإسلامي في أميركا» بمدينة ديربورن، حفل تأبيني للدكتور سالم أبو خليل، حفيد المسيح الذي تعلم منه قوة العطاء. طبيب اختص بلملمة الجراح، حمل إبرته ليخدر فيها الحساسيات بين أبناء الضيع، وسار بدوائه ليحارب مرض الطائفية، قولاً وفعلاً. كان سباقاً في مسيرته الطبية كمستشفى متنقل في حارات بلدته الأم مشغرة والقرى المحيطة بها من عين التينة إلى سحمر وميدون بمنطقة البقاع الغربي.
الخير الذي زرعه «الطبيب القديس» في لبنان لم تمحه سنوات الهجرة الـ17 في كندا، حيث رحل خليل بمدينة مونتريال عن عمر ناهز 87 عاماً. كما لم تمنع مئات الأميال من عرفوه في لبنان وبلاد الاغتراب الأميركية، من الاحتفاء بذكراه في منطقة ديترويت، حيث تقيم جالية كبيرة من أبناء البقاع الغربي ممن عرفوا الرجل الذي آمن بأن الطب مهنة إنسانية أولاً.
الاحتفال التأبيني الذي حضره رجال دين مسلمون ومسيحيون أقيم بمبادرة ناصر الحاج الذي واكب مسيرة الراحل، يبرز مدى تأثير الطبيب وعائلته في أبناء الوطن والاغتراب.
يؤكد الحاج، على أن الطبيب سالم صنع صورة مثالية في أذهاننا: «جعلنا ننظر لمهنة الطب على انها مهنة الانبياء والقديسين. في حين أطباء اليوم في أميركا والعالم هم أقرب إلى التجار. يمتلكون فكراً رأسمالياً، بينما أمثال سالم، فهم يتحركون بقناعاتهم الإنسانية. لم يكن في حساباته أي تفريق طبقي أو ديني. هو المسيحي الذي يخدم المسلمين. ولكني كنت أراه كما رأى هو نفسه: إنسان يخدم إنساناً. وهو المتأثر بقادة العدالة الاجتماعية التاريخيين، من المسيح إلى علي بن أبي طالب إلى غيفارا. لقد حول الطبيب عمله إلى رسالة اجتماعية فلسفية. تحرك بأدواته الطبية كما يتحرك المبشر بكتبه المقدسة».
هذا لم يمنع، من رميه بالحجارة من قبل المتعصبين. إنها سُنّة التاريخ. حيث تقف الهمجية صاحبة مدرسة اللون الواحد، بوجه أية حركة عملية عابرة للطوائف.
ولد الطبيب سالم عام 1932 وسط عائلة تؤمن بالقيم الإنسانية حيث كان والده سليم معلماً مُلهماً للكثيرين في المنطقة.
لم يكن التأمين والضمان الصحي موجوداً في منطقة مشغرة وجوارها المعروف باسم «المزارع». عالج الطبيب الفقراء مجاناً، كان بديلاً لوزارة الصحة في مناطق مهمشة. كان الطبيب الأساسي في مستشفى النجدة الشعبية. أمّن الدواء مجاناً بالتعاون مع بعض المؤسسات والشركات.
«لقد مات المسيح». بهذه العبارة جسد، بهجت محفوظ رحيل أبو خليل. وهو الذي رصد حراك الطبيب الراحل بين أزقة الحارات. بهجت، كان تلميذاً عند الاستاذ سليم والد الطبيب. عايش الأب والابن بعطاءاتهما مابين التعليم والطبابة برسالة تنقلت بين المنازل كالروح القدس، مؤكدة أن «العيش المشترك» ليس مجرد مصطلح متداول بين المنافقين. وبينما يعمل أمثال الطبيب الراحل، بصدق ويبتعدون عن زخرفة الشعارات الفارغة، لم يتوان البعض في مهاجمة منزله عدة مرات، لأن إنجازاته وأفكاره تُعري شعاراتهم الزائفة.
أنجب الطبيب ولدين (ابن وابنة). سيحمل ابنه رسالته كطبيب، ولكن في مدن كندا وأميركا، لا في حارات الوطن، فيما تم دفن والده في مونتريال حيث وافته المنية ليحضن تراب الغربة رفاته علّها تزهر وروداً في بساتين أميركا الشمالية.
«يؤكد كل من عرفه، على أنه من عائلة ثرية استطاع أن يُجمل البرجوازية ويُحول الرأسمالية المتوحشة إلى حنونة، وهنا تكمن عظمته، ولهذا يستحق الذكر والشكر».
أثلج التأبين قلب السفير الدكتور علي عجمي. مؤكداً لـ«صدى الوطن» أن المناسبة أعادت إحياء عنوان «الإنسان»، بعيداً عن كل الحسابات الضيقة. «فاجتماع الجالية لإحياء أثر طبيب نشر بمنطقته فكره اللاطائفي وقدم خدمات جليلة، مناسبة تُفرح الروح. والكلام المليء بالشغف عن حياة الراحل جعلني أتعلق به وأتحرك لأعرف أكثر عن فكره وأعماله مع أنني لم أعرفه شخصياً من قبل».
بدوره عبر الأستاذ الجامعي عون جابر، بعد حضوره الحفل التأبيني بذلك «الأثر السحري» للطبيب المرحوم «فالمنظمون والمحتفلون ليسوا من عائلته ولا من دينه»، مؤكداً «أن التفرقة في بلادنا هي مرض مختلق، بينما الناس طيبون بالفطرة».
Leave a Reply