لندن – علي منصور
من عاصمة الضباب المتكئة على ضفاف نهر التايمز، في أرض المملكة المتحدة، ينطلق «التلفزيون العربي» بتجهيزاته الضخمة وكوادره الإعلامية والفنية، في تجربة فريدة من نوعها، تشق عباب الفضاءات حول العالم في محاولة لتبديد الضباب الذي يطغى على جزءٍ كبير من الواقع العربي بتشعباته السياسية والإجتماعية والفكرية، والمنقسم على نفسه بسبب الصراعات التي مزقت المنطقة العربية، من مصر إلى ليبيا والسودان واليمن ولبنان والعراق وسوريا.
من الطبيعي أن تكون لـ«التلفزيون العربي» رسالة سياسية يرغب ويعمل على إيصالها لجمهور المشاهدين في الوطن العربي، وهذا ما لا يمكن إخفاؤه، أو التستر عليه، لأنه حق مشروع يعرفه كل من خبر مهنة الصحافة، لكن ذلك لا يعني أن نتطابق معه سياسياً في كل طروحاته وفي جميع مقارباته.
فالاختلاف لا يفسد للمهنية قضية، بل على العكس، يعطيها دفعاً ويزيد من فعاليتها إذا ما أُدخِل هذا الاختلاف في إطارات حضارية تُعمل الفكر وتُحكّم العقل.
أول ما يتبادر إلى ذهن الزائر لهذا المرفق الإعلامي الكبير سؤال بديهي ومنطقي : لماذا يبث تلفزيون عربي إرساله من عاصمة غربية، كانت –وياللمفارقة– السبب الأول في احتلال فلسطين وتشريد شعبها في بقاع الأرض، ويناصر –في الوقت ذاته– القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية تحديداً؟
.
ومثل هكذا سؤال يدل، بلا أدنى شك،على تردي الواقع العربي الذي لم يتسع بطوله وعرضه لقناة إعلامية ذات هامش كبير في حرية التعبير، لذلك لجأ منشِئوها إلى دولة غربية، صوناً لها وحفاظاً على استمراريتها، في خطوة يُستشف منها التخفف من التبعات السياسية التي قد تصاحبها وتستجلب الضغوط من كل حدب وصوب.. فضلاً عن أنها ستكون سبباً إضافياً لخلافات لا تنتهي.
تساؤلات كثيرة تدور في ذهن الزائر عن طبيعة الإعلام وعن جدوى إنفاق ملايين الدولارات في أغلى العواصم العالمية من أجل صياغة المشهد العربي وصناعة أخباره، بحروف عربية وضمانة غربية. ولكنها الحرية.. حرية التعبير التي قيل بأنها لا تُشترى ولا تُقايض . وهذا بحث يطول ، لكن تجربة “التلفزيون العربي” عدّلت من هذه المقولة.
فلا بأس بالإنفاق على مشروع إعلامي يجمع كفاءات الشباب العربي، على تنوعه، من المحيط إلى الخليج، في إطار هادف ومدروس يعيد الاعتبار للفكر والفن والثقافة، مع تقديم جرعات سياسية لا بدّ منها بحكم الواقع. لا بأس بالإنفاق، طالما أنّه سيكون مشروعاً إعلامياً هو الأضخم خارج الخريطة العربية، مع أن كلفته لا تصل إلى ثمن يختٍ فارهٍ لتزجية الأوقات وقضاء العطلات، ولا تضاهي ثمن لوحة فنية لا يفقه شاريها فكّ رموزها.
وليس من قبيل الصدفة، أن تُشن حملة ممنهجة على «التلفزيون العربي»، وعلى مديره العام عباس ناصر، تزامناً مع زياراتٍ لوفود صحفية وإعلامية من دول متعددة، للإطلاع على تجربة القناة وعلى الجديد الذي تقدمه في مختلف المجالات.ولعل هذا.. ربما يكون مؤشراً إضافياً يقنعنا بصوابية اختيار العاصمة البريطانية كمركز أساسي للقناة. وهو في الوقت نفسه، مؤشر على نجاح القناة باختراق التحصينات الإعلامية المضادة والتسلل إلى هواتف الجمهور في دول الحصار الأربع (مصر، السعودية، الإمارات، البحرين) عبر منصات التواصل الإجتماعي، مدججة بباقة من برامجها السياسية والثقافية والفكرية والفنية. وهذا نجاح يُحسب لمؤسسة إعلامية تدمج قناتين بقناة واحدة، عبر المزج بين السياسة والترفيه والثقافة، بإيقاعات متوازنة، مستفيدة من اختلاف المواقيت العالمية لتجعل منه حياة لها في مدارات الكرة الأرضية.
وهكذا تقدم «التلفزيون العربي»، في حين تراجعت «العربية» و«سكاي نيوز» والـ«بي بي سي»، كما نجح في التقدم ، ولو جزئياً، على قناة «الجزيرة»، خاصة في بعض المجالات التي ماتزال محرّمة على الأخيرة.
وفي المقابل، حافظ «التلفزيون العربي» على هامشٍ أخلاقي كبير يظهر واضحاً من خلال برامجه الفنية، كما لم ينزلق كغيره من الفضائيات الخليجية إلى مغبة التطبيع وفتح الهواء أمام الإسرائيليين وأبواقهم. .
لقد انتهى زمن التغليف الإعلامي والتعليب السياسي مع الثورة التي فجرتها المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، ولن تجدي نفعاً حملات التشويه والتشويش، فالمنافسة طبيعية وضرورية في الميدان الإعلامي، أما الاستهداف الشخصي والاسترسال في هدر الكرامات والتعريض الأخلاقي واختلاق القصص البوليسية والتحريض المذهبي فسوف يرتد على أصحابه، ليكون دليلاً إضافياً على عمق المأزق لدى الخصوم.
لم يتم التعرض لعباس ناصر إلا عندما نجح «التلفزيون العربي»، واستطاع أن يقض مضاجع الحكام العرب في دول الحصار. وعندما نجح بمخاطبة الجماهير والتصدي لـ«صفقة القرن» ولجنون الحرب على اليمن ومناصرة حقوق المواطن والمرأة!
النجاح مكلف في بعض الأحيان، وطريقه دائماً شاق وطويل وحافل بالعقبات والتحديات، ولن يقبل بالتحدي إلا أصحاب الهمم العالية والإرادات الصلبة. وهذه الحقيقة عكستها كلمة ناصر خلال استقباله للوفد الإعلامي بقوله : «في زمن ترسّم حدود بلادنا العربية بالدم والنار، وتنقسم مجتمعاتنا بشروخ لم تعرفها من قبل، وتنهار منظومات كاملة من القيم، وتهب علينا أفكار ومشاريع ورياح من كل الجهات .. نتقلد في التلفزيون العربي مسؤولية هي الأثقل».
ويضيف ناصر : «قررنا أن ننجح، والنجاح في بدايته قرار وإرادة. وقررنا أن ننحاز إلى المهنية، والمهنية بذاتها نجاح. نحن مشروع وعنوان، عنوان لمن آمن بالحرية والتحرر، ورفض الاستبداد، كما رفض التطرف والكراهية».
ويختم بقوله : «نحض على المهنية ، ننحاز لقيم تؤمن بحقوق المشاركة والتعددية، قيم ترفع من مكانة الإنسان، وتمكن المرأة كشريك، والشباب كأمل، والحرية والعدالة والديمقراطية كمنهج عمل أصيل لا يكتمل إلا بحرية الرأي»، مضيفاً: «في العربي نتحدث معك وليس عنك، ننتج من أجلك ونطمح بمشاركتك ، وننجح بنجاحك.. فأنت من تصنع الفرق».
نبذة مهنية
تولى عباس ناصر منصب المدير العام للقناة، في آذار (مارس) 2017. وقد شكّل توليه للمنصب محطة مفصلية بالنسبة لـ«التلفزيون العربي»، حيث استطاع ناصر –خلال فترة وجيزة– أن ينهض به عبر تعديلات جوهرية على برامجه.
استحدث ناصر برامج جديدة سياسية واجتماعية وثقافية وفنية في القناة، ليحدث ثورة فاجأت الجميع وليحجز بمقتضاها مكاناً رائدًا في الإعلام العربي المتلفز.
بدأ ناصر مسيرته المهنية في «تلفزيون المنار» اللبناني، قبل أن ينهي دراسته الجامعية في معهد العلوم الاجتماعية بالعاصمة اللبنانية بيروت، ثم انتقل بعدها إلى “قناة الجزيرة”، فعمل كمراسل، ثم رقي إلى مراسل أول.
بعد استقالته من «الجزيرة»، عاد إليها كمراسل متجول، ثم تولى التدريب الإعلامي في «شبكة الجزيرة» إلى أن استقال منها نهائياً، أواخر 2016.
Leave a Reply