ترامب يبحث عن نقاط .. وأردوغان يخفض سقفه .. ونتنياهو الحلقة الأضعف
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
حراك سياسي على خطوط متعددة، كلّها تلتقي عند سوريا. هكذا يمكن اختزال المشهد السياسي برؤيته البانورامية المترامية بين موسكو وواشنطن وطهران وأنقرة وتل أبيب.
الملفت في هذا الحراك وتيرته المتسارعة، التي تأتي لتكسر جموداً أحدثه الإرباك المتعدد الأوجه، الذي تسبب به الإعلان الأميركي عن الانسحاب من سوريا، وهو يأتي ليعكس سباقاً تخوضه كل الأطراف مع الزمن، لتثبيت المعادلات القائمة أو تغييرها بالكامل، خصوصاً أن عقارب الانتخابات الرئاسية الأميركية تسير بسرعة، والفترة الفاصلة بين الترتيبات المأمولة عند كل الأطراف وبين بدء انشغال الأميركيين بسباقهم الرئاسي باتت تقاس بالأشهر، أو حتى الأسابيع.
ملفات شائكة
في واشنطن، تبدو الصورة ضبابية حول خيارات دونالد ترامب، المشتّت بين مشاكله الداخلية، وشهيته على تحقيق إنجازات صعبة في أكثر من ميدان، ابتداءً من فنزويلا، ومروراً بالتوترات الهندية–الباكستانية وصولاً إلى كوريا الشمالية، حيث يسعى الرئيس الأميركي إلى تحقيق اختراق «سلمي» يمكّنه من جني نقاط سياسية يعزز فيها رصيده الانتخابي.
على هذا الأساس، يدير ترامب، اللعبة السياسية بشكل أبعد ما يكون عن سياسة واشنطن التقليدية، وهو ما لن يتأخر منافسوه الديمقراطيون في استخدامه انتخابياً، حين يقدّمون الحجة على أن «رجل الأعمال» لا يمكنه قيادة الولايات المتحدة والعالم.
ولعلّ أول ما بإمكان الديمقراطيين التصويب من خلاله على ترامب، هو أن الملف الكوري الشمالي، لم يعد يمثل الهم الشاغل للأميركيين، مقارنة بملفات دولية أخرى.
وربما أدرك ترامب ذلك، وهو ما يفسر هجمته السريعة في أميركا اللاتينية، الفناء الخلفي التاريخي للولايات المتحدة، انطلاقاً من البوابة الفنزويلية، وهي هجمة بدأت تفقد زخمها في ظل المقاومة الهائلة التي يبديها النظام الاشتراكي بقيادة الرئيس نيكولاس مادورو، وبداية احتراق ورقة غريمه خوان غوايدو، برغم استمرار الأزمة السياسية والتهديدات الأميركية بإمكانية التدخل العسكري.
أما المقاربة الترامبية تجاه إيران، فيبدو أنها باتت أمام طريق مسدود، تبدّت بشكل خاص في فشل مؤتمر وارسو، وذهاب الأوروبيين في اتجاه تجاوز قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، من خلال استحداث البوابة الخلفية للتعاملات المالية مع الجمهورية الإسلامية.
يضاف إلى ما سبق أن السعي الترامبي لفتح حرب تجارية مع الصين بدأ يتراجع، خصوصاً أن التنين الآسيوي يبدي انفتاحاً على التوصل إلى اتفاق مع واشنطن بعد تمكنه من احتواء الصدمة الأولى للحرب الجمركية التي أعلنتها الإدارة الأميركية.
تراجع عن الانسحاب
لعلّ ما سبق يبدو كافياً لأن يتراجع ترامب خطوات إلى الخلف في الملف السوري، باعتباره الميدان الوحيد الذي يمكن من خلاله أن يستجدي بعض التأييد من اللوبيات الفاعلة في الولايات المتحدة، ولاسيما اللوبي الصهيوني، الذي يمكن رصد توجّهه من خلال قياس رضى المسؤولين الإسرائيليين عن الخيارات الأميركية في ملف أساسي هو إيران، سواء تعلق الأمر بالشأن النووي، أو بتعاظم النشاط الإيراني في سوريا.
على هذا الأساس، جاء حديث ترامب المتجدد بشأن التراجع عن قرار الانسحاب العسكري من سوريا، وذلك بذرائع مختلفة، من أبرز عناوينها، الحرص على عدم حدوث إبادة تركية للأكراد في الشمال السوري، والرغبة في اقتناص «احتياطي» تنظيم «داعش» من الإرهابيين، الذين لا يزالون يشكلون تهديداً للأمن العالمي.
من هنا، لم تعد ثمة صعوبة في استكشاف ما تنبّه الروس إليه مبكراً، حين قارنوا قرار ترامب، الانسحاب من سوريا بالقرارات السابقة التي اتخذت منذ عهد باراك أوباما بشأن الانسحاب من أفغانستان.
انطلاقاً من ذلك، فقد اتضحت الرؤية الترامبية: الولايات المتحدة باقية في سوريا، طالما أن أمراً كهذا ما زال من الممكن استثماره في تحقيق بعض المكاسب المفقودة في أماكن أخرى من العالم.
قواعد المرحلة المقبلة
يبدو ذلك كافياً، لكي يتحرّك الكل لتحديد قواعد الاشتباك في المرحلة المقبلة: فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان اتفقا على مواصلة تنفيذ اتفاق سوتشي بشأن إدلب. بشار الأسد اتخذ خطوة متقدمة بالذهاب إلى إيران للقاء المرشد الأعلى السيد علي خامنئي. بنيامين نتنياهو طار إلى موسكو للبحث عن مخرج للعلاقات المتأزمة منذ إسقاط طائرة «إيليوشين».
بالنسبة إلى تركيا وروسيا، فإنّ تراجع ترامب عن خطوة الانسحاب يعني العودة إلى ما قبل صدور قرار الانسحاب نفسه، أو بمعنى آخر، تخلياً من قبل أردوغان عن طموحات السيطرة على الحزام الكردي في الشمال السوري، لصالح تطبيق ما تم التوصل إليه من اتفاقيات بشان إدلب، التي لا يزال الأتراك يعتبرونه الميدان الأكثر ضمانة لهم للحفاظ على نفوذهم في سوريا.
بطبيعة الحال، فإنّ تدنّي السقف الأردوغاني يبعث على الارتياح عند الروس، الذين توجّسوا من الخيارات التركية الأخيرة، سواء تلك المتعلقة بتأخير تطبيق تفاهمات سوتشي، أو بشأن المنطقة الآمنة التي سعى الأتراك للترويج لها خلال الفترة الماضية.
أما بالنسبة إلى إيران، فإنّ عدم سحب الجنود الأميركيين يعني أن بقاءهم في سوريا لم يعد موضع تساؤل، خصوصاً بعد المؤشرات الروسية الأخيرة التي ذهبت، في الكواليس الدبلوماسية، إلى الحديث المباشر عن ضرورة تخفيف التوتر في سوريا بعد الانسحاب الأميركي من خلال خطوة مماثلة من قبل الإيرانيين.
ولعلّ الزيارة التي قام بها الرئيس الأسد إلى طهران، ولقائه بالسيد خامنئي، شكلت من دون أدنى شك رسالة واضحة، بأن الوجود الإيراني في سوريا يستجيب لمصالح الحكومة السورية، وهو أمر لا شك من أنه يرفع الحرج عن الروس، سواء في اتصالاتهم الخلفية الجارية مع الأميركيين أو المباشرة مع الأتراك، بشأن الانسحاب الإيراني من سوريا، خصوصاً أن المسؤولين الروس صرّحوا مراراً وتكراراً بأنّ مطالبتهم بانسحاب القوات الأجنبية يعني حصراً تلك المتواجدة في سوريا بغير طلب من حكومتها، ما يعني أن الأمر لا ينطبق على روسيا أولاً، ولا على إيران ثانياً.
مع ذلك، فقد بدت زيارة الأسد خطوة متقدمة تتجاوز ترتيبات الخطوة–خطوة التي تنتهجها كافة القوى الفاعلة في الميدان السوري، بما في ذلك إيران. وربما هذا ما يفسر الاستقالة المفاجئة التي تقدّم بها محمد جواد ظريف، رئيس الدبلوماسية البارع في التسويات الناجحة، والتي سرعان ما تمّ احتواؤها، بداية برفضها من قبل الرئيس حسن روحاني، وصولاً إلى الدعوة الرئاسية التي تلقاها الوزير الإيراني من الرئيس الأسد لزيارة سوريا.
ما سبق يعني أن محاولات البعض، الرهان على استقالة ظريف لتمرير رسائل بشأن تذبذب المحور الإيراني–الروسي–السوري، سرعان ما تلاشى، وبالتالي فإنّ ما حدث مع رئيس الدبلوماسية الإيرانية لا يعدو كونه صدمة إيجابية من شأنها أن تحدث تناغماً في التحركات ضمن هذا المحور، بعد التباينات التي ظهرت في أكثر من محطة، خلال الأشهر الماضية.
نتنياهو الحلقة الأضعف
إذا كانت البراغماتية الروسية–الإيرانية قادرة على تعزيز التناغم في الأهداف، فإنّ بقاء الأميركيين في سوريا، يجعل زيارة بنيامين نتنياهو إلى روسيا أكثر تعقيداً.
رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي أقصى ما حققه هو الحصول على موعد من بوتين، بعد أشهر من رفض موسكو استقباله، يبقى الحلقة الأضعف في المعادلة السورية، فبرغم ما حمله معه من خرائط، كعادته، لمواقع إيران و«حزب الله» العسكرية في سوريا، فإنّ أقصى ما سمعه في الكرملين هو كلام عام، وتحذيرات من مغبة الانجرار إلى مغامرات عسكرية، سواء المناورة مع الجيش الروسي في سوريا أو الذهاب إلى مواجهة مباشرة.
هكذا عاد نتنياهو إلى إسرائيل بخفي حنين، فالإعلام الإسرائيلي لم يتجاوز في حديثه عن «إنجازات» الزيارة سوى حديث غير مؤكد عن إمكانية «غض الطرف» من قبل روسيا عن هجمات إسرائيلية محدودة، لن تصيب أهدافها إلا انتخابياً في الداخل الإسرائيلي.
لكن يبدو أن الداخل الإسرائيلي سيضطر إلى التضحية بنتنياهو نفسه، حيث يعتزم المدعي العام في إسرائيل توجيه ثلاث تهم بالفساد لرئيس الوزراء، تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، وهو ما قد يشكل ضربة قاصمة في سباق انتخابي شديد التقارب.
Leave a Reply