محمد العزير
منعشٌ تماماً أن يقرأ من يمتهن الصحافة، من امثالي، كتاباً عن اللغة التي يعتمدها ويعتبرها لغته الأم، فكيف إذا كانت تلك اللغة هي العربية التي يجمع المعنيون بها، على انها في أزمة تتراوح بين الداعين إلى التمسك بقداستها ربطاً بالمعطى الديني وبين الداعين إلى تفكيكها أتاتوركياً (أي كتابتها بالحرف اللاتيني) أو تشطيرها عامياً لتكون لكل لهجة لغتها. وكيف إذا كان المؤلف من ممتهني العربية دون الوقوع في أسر نمطيتها ومن المجيدين في أكثر في ميدان من ميادين المعرفة والثقافة والابداع.
«في صحبة العربية» يأخذنا الدكتور أحمد بيضون، بكثير من الدراية ودون تكلف، في رحلة مثمرة مع لغة الضاد تجول في الواقع الراهن للعربية بعيداً عما تعوّدناه من أقوال جاهزة وصور نمطية تزداد انتشاراً مع ثورة الإنترنت والتواصل الاجتماعي، التي جعلت الكتابة والنشر في متناول كل من يعرف الكتابة، بصرف النظر عن المؤهلات والمواضيع والجمهور. من حسن طالع القارئ أن الدكتور بيضون في تقديمه لنفسه في مستهل الكتاب، وفي سعيه لنفي صفة المرجعية اللغوية عن شخصه: «لم أدرج نفسي يوماً في معشر اللغويين»، إطلعنا على خلفية معرفية وأكاديمية متنوعة من الفلسفة وعلم الاجتماع والنقد التاريخي والتعليم الثانوي والجامعي والتأليف إلى التوثيق المعجمي، مروراً بالشعر طبعاً، لنكتشف في ثنايا فصول الكتاب أهمية تلك الخلفية والتجربة في إخراج معالجة اللغة من رهاب النحويين وانعزال المعجميين، ليقدم اللغة ككائن حي يتفاعل مع زمانه وأهله.
تنطلق المقاربة من طرح مذهب اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور الذي يستبعد أي دور «للمدلول في تعيين الدال» أي عدم العلاقة بين التصور وبين اللفظ ويعطي مثالاً على ذلك أن ليس من شبه في لفظ «بقرة» وصورة البقرة. كما يناقش حقيقة تعدد اللغات القائم على «المجاز الصوتي «الذي لا يقوم على الشبه بل على «توهم الشبه» على ما ذهب إليه الفلاسفة الإسلاميون. وفي مسألة العربية والحضارة العصرية يتوقف المؤلف أمام ادعاء أن كفاءة العربية تسمح لها باستيعاب أي جديد لاعتمادها الاشتقاق والنحت والتعريب، وأن تفعيل طاقات اللغة يؤدي إلى استقامة أمر العربية، ويسارع إلى رفض هذه الفكرة من منطلق أن المشكلة ليست تقنية بل هي في العالم أو العصر الذي نعيش فيه لأننا «بتنا نعيش في عالم مصنوع وأننا قلما صنعنا منه شيئاً»، وتالياً فإن من يتولى صناعة هذا العالم يتولى أيضاً تسمية المعارف بلغته.
هنا يطرح الدكتور بيضون دور العامية التي تتلقف التسميات الأجنبية وتعربها دون اكتراث لأصول هذا التعريب ودون اعتماد ما يقترحه اللغويون، وما يزيد من سهولة ذلك كثرة المرجعيات المختلفة المشارب وغياب سلطة معنوية جامعة في ظل التهالك والتبدد في أقطار الناطقين بالعربية. ويعطي المؤلف مثالاً على ذلك وهو الهاتف المحمول الذي وصل إلى السوق العربية باسم «سيللر» الذي تم تعريبه إلى «خليوي» وحتى لو لم يكن اللغويون انتبهوا إلى ذلك واعتمدوا مصطلح «خلوي»، وهو الأدق، كان الأمر قد قضي. وفي تحليل متماسك عن أسباب الوضع الراهن للعربية يورد المؤلف جملة أسباب منها انحطاط التعليم وانحسار الفصحى عن معاقلها التقليدية كمنابر التدريس ومنابر الخطابة وتدريس اللغة نفسها وحالة استسهال الجنوح نحو العامية خصوصاً بعد صعود الحركات السياسية وشيوع الراديو ووسائل الإعلام التي كان الخطاب السياسي (تجربة جمال عبد الناصر في مصر) يستهلك الكثير منها ويترك الباقي للفن الذي يستخدم العامية وخصوصاً الغناء والتمثيل.
لكن المؤلف لا يتخذ من العامية موقفاً سلبياً متزمتاً بل يرى في انتشارها، وخصوصاً العامية المصرية التي يطلق عليها تسمية «فصحى العاميات» فرصة لتصحيح مسار الفصحى انطلاقاً من اعتماد إشارات الصوائت القصيرة أي الحركات التي تميز بين الكلمات (الفتحة والضمة والكسرة والسكون) معتبراً عدم استخدام الحركات سبباً رئيساً في الوضع الراهن للغة، خصوصاً في ظل توفر التقنيات حالياً لتيسير وضع الحركات فوق الأحرف، وهو ما فعله المؤلف في كتابه وأظهر بالفعل، القيمة المهمة لهذه الصوائت القصيرة. ويحمّل المؤلف رجال الدين والسياسة والإعلاميين والصحفيين ووسائل الإعلام مسؤولية تردي الفصحى لتخليهم عنها وعن استخدامها السليم، كما لا يوفر من نقده مجامع اللغة العربية التي يقر بدورها البارز وضرورته، ويستنكر دعوة مجمع اللغة العربية في القاهرة إلى إقرار تشريع يعاقب بغرامات فاحشة بل بالحبس أيضاً «من تسول له نفسه الكتابة بالعامية في الصحف وسائر وسائط الإعلام والإعلان» ويعتبر ذلك هزلاً تقع فيه «مؤسسة معروفة بالتجهم عادة».
يتناول الكتاب في فصوله التسعة أبواباً عديدة لمعالجة الموضوع لا يمكن الإحاطة بها في هذه العجالة، ففي الفصل الثاني، وعنوانه «في أن استواء تعلم اللغات قيمة مدركة شرط لمعالجة مشكلاته»، يعرض المؤلف للشكوى الراهنة من حال العربية ويعتبر أنها بلا جدوى ما لم تقترن بمعرفة جذر المشكلة وفك الارتباط الديني والقومي مع اللغة بالشكل التقليدي والانتقال باللغة من الانتماء إلى الاستعمال دون أسف على العصبية. ويدعو إلى «تعزيز الاقتناع العام بأن المعرفة باللغات قيمة كبرى ترقى بالعارف فكراً وشعوراً وعلائق بالناس وبالموجودات كلها». ويدعو عملياً على المستوى الجامعي إلى اعتماد امتحانات قياسية للدخول إلى الجامعات العربية وتعزيز تعليمها السليم في المرحلة ما قبل الجامعية، وتدريس العلوم بالعربية بعد مراجعة وافية للمواد المطلوبة والتأكد من سلامة لغتها، والكف عن معاملة العلوم الإنسانية والاجتماعية كمواد أقل أهمية، وتوحيد جهود مجامع اللغة العربية لتشكل سلطة معنوية فاعلة.
يتناول الفصل الثالث تحت عنوان «العربية مفسبكة: عاميات يكتب بها وفصحى حوارية» وبعد عرض تاريخي لأثر ظاهرة عبد الناصر في التحول اللغوي إلى العامية، الحال الراهنة للمخاطبة والكتابة باللغة العربية على الهواتف والشاشات خصوصاً عبر «تويتر» و«فيسبوك» ويدعو إلى الإفادة من تعميم الكتابة والنشر لتشجيع اعتماد الفصحى «في عالم يتسع لكل شيء». كما يتناول ظاهرة كتابة العربية بالحرف اللاتيني وما أثارته من مسائل جديدة، وينبه بصراحة إلى «أن علينا الإعراض عن تصور لا يزال مستولياً على نفوسنا للغة ولوحدتها. فنحن نقيم في وهم يوحي إلينا أن اللغة كانت، في وقت من الأوقات، مستقرة في مطابقة تامة لنفسها وصلحٍ مطلق مع نفسها وأن علينا أن نعود بها إلى هذا والى تلك. ذاك وهم يتجه بنا إلى إرادة الخروج باللغة من تاريخها ومن التاريخ كله، وهو وهم عقيم وخانق».
يتناول الفصل الرابع تحت عنوان «منافذ إلى قضية العربية» مسألة جذور اللغة وخصائصها، ويعطي في الفصل الخامس بعنوان: «مصطلحا «طائفة» و«طائفية»: ترسيم لنسبهما الدلالي على نية المترجمين»، أمثلة عن تأثير المتغيرات السياسية على الترجمات واستخدام الألفاظ، ويبحث في الفصل السادس عن العلاقة التاريخية ثقافياً وإعلامياً وسياسياً ولغوياً وفنياً بين مصر ولبنان. وينتقل في الفصل السابع إلى عرض لأسلوب الصحفي والدبلوماسي اللبناني الكبير الراحل غسان تويني من خلال قراءته لبعض افتتاحياته واللغة المميزة التي كان يستخدمها، ويجري في الفصل الثامن مقارنة لتجربة المطربة اللبنانية فيروز بين إنتاجها مع الأخوين رحباني وبين إنتاجها مع ابنها الفنان زياد رحباني.
في فصل الختام وفي إضاءة شفافة يتحدث الدكتور بيضون عن تجربته المهنية معتبراً أن الكتابة كرم لا نظير له، حيث النص أياً كان نوعه أو مستواه هدية عظيمة قليلة الثمن، داعياً إلى الإكثار منها… وحتى إلى شكر الكتاب المعتدين على المهنة لأنهم يشحذون الهمم للبحث عن النص الأفضل وعن الكتابة الأحسن. الكتاب صادر عن «دار الجديد» في بيروت ويقع في 222 صفحة من القطع الوسط.
Leave a Reply