فاطمة هاشم
يشكّل الإعلام قبل أن يتسنّم السلطة الرابعة، واجهة متقدمة لحياة المجتمع بكلّ مساراته واتجاهاته وإنجازاته وما ينهمك به من أفراح وأتراح، فالإعلام يرصد أيّةَ ظاهرة تطفو على سطحه أو تتوغل في حياته على المستوى العام أو على مستوى المبادرات الاستثنائية بين أفراده، وذلك على تعدّد الوسائل من بصرية كالتلفزيون أو سمعية كالراديو أو مكتوبة كالصحف والمجلات، باعتماد النزاهة والوقائعية والأمانة من دون مغايرة.
ولدى تقصّينا لأخلاقيات العمل الإعلامي المستجدّة على الساحة العالمية، نصطدم اليوم بالكمّ الهائل من الانحياز أو التبعية السياسية أو الانحراف عن النهج المسؤول في نقل الحقيقة، رغم أنّ ذلك يُعدّ خروجاً على ما تعارف عليه المجتمع –أيّ مجتمع– من قيم مهنية ومعايير سليمة.
وبديهيّ أنّ من المسلّمات، انتهاج المؤسّسات الإعلامية لمبدأ الالتزام بالأخلاقيات الإعلامية واحترامها بغضّ النظر عن تماشي الحدث أو الخبر مع أهدافها من عدمه.
أمّا نحن المشاهدين، فتحت هذا الخضم من التناقضات التي تُفرض علينا عبر وسائل الإعلام، نجد أنفسنا بين اختلاط الحابل بالنابل، إذ أضحى الإعلام مثل «حارة كل مين إيدو إلو»، فقد تمّ تحويل هذه المهنة النبيلة إلى سوق يعرض فيه كل ما ينتمي إلى تبادل الإهانات وكيل الشتائم عدا عن نشر الغسيل من دون مراعاة لأدنى مقتضيات الأدب والكياسة في التعامل البشري، على أنّنا لا نغفل دور الإعلاميين الملتزمين بقضايا الإنسان أينما وُجد وتقديم الحقائق كما تواترت على أرض الواقع.
إنّ الأزمة الأخلاقية التي يمرّ بها إعلام اليوم على مستوى العالم تتطلّب التصدّي لها كما تتطلّب وضع الدراسات اللازمة لتثقيف الكوادر الإعلامية بأخلاقيات العمل الإعلامي النزيه والالتزام بشرف المهنة لأنّها تتعلق بالبناء الفكري للإنسان وليس بضخّ الأموال لجيوب أصحاب الرساميل.
وما زاد في الطين بلّة، انتشار وسائل التواصل الإجتماعي التي أصبحت منصات موبوءة لإطلاق الكلام البذيء وهجوم الأشخاص بالسباب والشتيمة بعضهم على بعض، دون أن يتعلموا من الإعلاميين الحقيقيين، حسن التواضع وحفظ الكرامات واتّباع لغة التخاطب العقلاني والضميري والارتفاع بالذات إلى درجة السموّ عبر نكران الذات.
لقد شدّني الأستاذ الإعلامي الكبير سامي حداد الذي حاور أغلب ملوك ورؤساء الدول العربية بمقدرة مهنية متفوّقة وبذهنية متفتّحة متوقّدة والسير بالحوار داخل منطقة الاحترام للرأي والرأي الآخر من دون إقحام أيّة زوائد أو مغايرات تحوّل دفّة الحوار، بحيث يجعل المتابع مشدوداً إلى مقعده وعينه مصوّبة على جهاز التلفاز، حيث لا يسمح للضيف بإهانة أحد، كما حصل يوم حاور الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في قضية تغييب السيد موسى الصدر، حيث قال إنّ السياسي نبيه بري هو من أخفى السيد الصدر ليصبح رئيساً لمجلس النواب اللبناني، ولم يسكت عنه الأستاذ حداد بل قال له بكلّ أدب: إنّ الرئيس بري ليس معنا هنا الآن حتى تتهمه بذلك ليكون باستطاعته الرد، وهكذا بكلّ لباقة وبكلّ كياسة ظرف، أسكت القذافي عن الاسترسال بما أراد!
إنّ هذه الطريقة الفذّة في إدارة الحوار وغيرها من براعات في تقديم برامجه الأخرى، قد جعلت شخصية حداد راسخة في ذاكرتي بحيث اتخذته مثلاً يُحتذى بين جمهرة الإعلاميين في طول وعرض وطننا العربي، فهو الإعلامي المخضرم الذي يتقن كيفية التصرّف بحكمة نادرة وانسيابية نابعة من تجربة ضخمة.
حتى إذا دُعي إلى ميشيغن وأقيم على شرفه حفل عشاء كبير تكريماً لحضوره وكنت لجميل المصادفة من جملة المدعوين فأتيحت لي الفرصة أن ألتقي بعملاق إعلامي وجهاً لوجه، فإذا به ذلك الإنسان الرزين والمتواضع، وكم ازداد انبهاري به حين وجدته ضليعاً بالحديث عن الشعر والأدب مضافاً إلى ذلك رصانته، وكم تمنيت أن أرى إعلاميينا في الوطن العربي وقد حذوا حذوه بعيداً عن الأنوية ونفش الريش والاستعلاء الفارغ.
لقد وجدت في الأستاذ حداد، الامتلاء الفكري والمعرفي يصطفان جنباً إلى جنب تواضعه فأوحى لي الأبيات الشعرية التالية:
أصل الشجر بالحقل ميزان الدني
والقاعدي بين المفوفش والغني
كل الغصون الفارغة بتشمخ طلوع
إلا الغصون الحاملي لبتنحني
Leave a Reply