«آه لو لعبت يا زهر واتبدلت الأحوال.. وركبت أول موجة في سكة الأموال». هو «الزهر» المُنتظر في عالمنا العربي، لتبديل الأحوال. لم تنفع الفورات والثورات الحديثة في التغيير نحو الأفضل، فعبَر المواطن العربي على طريقته. لعب «الزهر» في مصر، دُقت طبول «خايف هزك يا غربال» في لبنان، وانتشرت «جيناك بهاية» لتخرج الكبت الحزين من نفوس العراقيين. وعلى هذا المنوال، أعيد ترتيب «الموال». موال الشعب المتنقل بين الأحياء والدكاكين والمقاهي والنوادي الليلية التي تقتات بمهنة «تنفيس هم المواطن» على طاولة «الزهر» و«الأغنية الشعبية».
يعتبر التعريف الكلاسيكي للأغنية الشعبية أنها القصيدة الغنائية التي يتداولها الناس في الوسط الشعبي ويتوارثونها في مناسباتهم الاجتماعية. فتأخذ الأغنية لونها بحسب المنطقة التي تظهر فيها. إذ للجبل أغنية وللسهل أغنية وللوادي والبوادي أهازيجها ومواويلها. التأثير ليس للمكان فقط، بل للزمان أيضاً. فلمواسم قطف الزيتون والحرث والبذار وجني محاصيل البساتين أغانٍ خاصة هي الأخرى.
أما عصر الفيسبوك واليوتيوب فقد فرض أغانيه الشعبية الخاصة وفلسفته الجديدة. انتقلت المراعي الجبلية والبوادي إلى الشاشة. وما أنشده الرعاة والفلاحون من أغان عن العمل الشاق وفتيات أحلامهم السمراوات أو الشقراوات، أصبح «ترند» متدوال على كنبة الاسترخاء والملل. تحولت كلمات «البحر بيضحك ليه» إلى «أنا لا ابن هانم ولا ابن لورد.. اتفضلي هاتي الباسوورد» لتتماشى مع الذوق العام، المتعطش إلى الموسيقى المليئة بالحركة والكلمات البسيطة المتداولة البعيدة عن تعقيدات الحقل السياسي والثقافي. لقد ملَت الأكثرية من موروثات الشعارات والنظريات، ليبرز على الساحة، الفنان الشعبي الذي يخفف عن سائق التاكسي غضبه أثناء زحمة السير بالغناء عن: اللي بتقصّر تنورة». كلمات تتغلب بقوة على قصائد الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي المغناة بأنغام موسيقية فلسفية.
برزت الأغنية الشعبية سابقاً بمناسبات الخطبة والزواج والختان. وشهدت ليالي السهر والأعراس، الدبكات على أنغام الآلات الموسيقية الشعبية مثل المجوز والربابة، لتصل إلينا اليوم كوثائق أنتروبولوجية تحمل معها صور العادات والتقاليد، المتشابهة بقوة في عالمنا العربي، كالعتابا والميجانا والمواويل. لا تقف شهرة «العتابا» عند بلاد الشام، بل تتخطاها إلى العراق بإسم «الأبوذية والعتابا».
كما يتطابق الغناء الشعبي المعروف بـ«السامر» في الإمارات العربية وبلاد الشام. يقول الباحث الدكتور عبد اللطيف البرغوثي: «شاهدت في أكثر من مناسبة أيام الانتداب البريطاني في فلسطين، عددا من اللبنانيين «البراجوة» نسبة إلى بلدة برجا في لبنان، يحملون الأقمشة في رزم كبيرة على ظهورهم، ويطوفون القرى لبيعها، وكنت ألاحظ فرح الناس بمجيئهم. إذ أن وجودهم في قرية ما، كان يعني دائماً أن القرية ستقيم تلك الليلة «سامراً» تستمع فيه إلى العتابا والطلعات والزجل والشروقي… والحدود بين فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، لم تستطع في يوم من الأيام أن تقف حاجزا في وجه الأدب الشعبي، فهو متشابه في كل هذه البقاع، وإن اختلف فإنما يختلف في ظلاله وتفاصيله، لا في جوهره ونوعيته، لذلك فإن من الصعب على المرء أن يقرر في أية بقعة من هذه البقاع نشأ نوع من أنواع الأدب الشعبي لأول مرة».
هذه الحدود المكسورة أمام الأغنية الشعبية ليست حديثة. فالانتشار في الماضي كان يتخطى كل الحدود. ولكن بشهور وسنين، متذكراً «الحبايب» بكلمات الميجانا: «يا ميجانا يا ميجانا يا ميجانا الله معاهم وين ماراحوا حبابنا».
أما انتشار اليوم، فهو انتشار الدقائق والساعات، انتشار يقصّر المسافات أيضاً، بكلمات: «لما بضمّك ع صديري.. شو بحسّ الدنيا صغيري».
تتأثر الأغنية الشعبية أيضاً، بالظروف السياسية المحيطة. مثلاً، تعتبر الكاتبة ياسمين فراج أن الأغنية الشعبية المصرية عكست القيم الحاكمة لمنتجي وجمهور هذه النوعية من الغناء الذي تأثر بثلاث فترات زمنية وقعت فيها أحداث سياسية في مصر وهي كالتالي: في الفترة من 23 يوليو 1952 إلى هزيمة 1967، وفترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 إلى انتصارات أكتوبر 1973 وما بعدها، وفترة اندلاع انتفاضة 25 يناير 2011 وما بعدها. وهنا لا بد من ذكر كلمات أحمد فؤاد نجم وأغاني الشيخ إمام التي حفرت بذاكرة جيل عربي كامل. من «ناح النواح والنواحة» إلى «آه يا عبد الودود». الأغنية الشعبية السياسية التي تجسدت حديثاً بفرقة «كايروكي» مثل أغنية «اثبت مكانك هنا عنوانك ده الخوف بيخاف منك وضميرك عمره ما خانك».
تتعدد أطر الأغنية الشعبية. فما بين التراث والسياسة والجلسات الاجتماعية، تنتقل الهموم والهواجس والضحكات من الحاضرين إلى ذاكرة الجمهور بتسجيل خاص. عرف لبنان مثلاً، حرباً أهلية دامية، وأفضل من نقل لنا تلك الحقبة، وما قبلها وما بعدها، بسخرية سوداء هو زياد الرحباني، فنان الشعب الأول. كلماته البسيطة وألحانه المحبوبة من الجميع أثبتت أن البساطة الفنية العميقة، لها حضور قوي. ولكنها تحتاج إلى محاربين بسيف الموسيقى. فـ«الحالة تعبانة يا ليلى» و«أنا مش كافر» وغيرها من الإبداعات الزيادية، تستطيع أن تعلمك وتسليك في آن معاً، كما تستطيع أن تنافس على «الرايتنغ» دون الحاجة إلى التسخيف أو التسطيح.
نحن الآن، في عالمنا العربي، بحاجة ماسة إلى محاربين جدد على ساحة الأغنية الشعبية وثقافتها، فقد طاف «الفيسبوك» و«اليوتيوب» بالنجاحات المزيفة لمتسلقي حبال اللايكات حتى لو بالحسابات الوهمية الناشئة في العقول. الجمهور بحاجة إلى فنان شعبي حقيقي من طراز فيلمون وهبي، لا على نسق وديع الشيخ. أما الآن فما علينا إلا أن نرتل ما يلي: «سنفرلو عل سنفريان».
Leave a Reply