«صدى الوطن» .. الموقف الحرّ والحلم العربي الأميركي
عندما أسس الناشر أسامة السبلاني صحيفة «صدى الوطن» في ديربورن عام 1984، كان المجتمع العربي الأميركي في المدينة محصوراً في طرفها الجنوبي (الساوث أند)، ولم يكن عدد الأسر العربية يتعدى بضع مئات بأقصى تقدير، كما كان عدد المطاعم والمتاجر والمؤسسات العربية ضئيلاً لا يكاد يتجاوز أصابع اليد الواحدة. لم تكن ديربورن حينها قد تبلورت إلى عاصمة العرب الأميركيين.
في حقبة الثمانينيات وما قبلها، كان المهاجرون من المنطقة العربية في ميشيغن معظمهم من المسيحيين المشرقيين وكانوا يتركزون داخل مدينة ديترويت، لاسيما في «الحي الكلداني» (الميل السابع) الذي بلغ ذروته في الستينيات والسبعينيات إلى الثمانينيات قبل أن يبدأ بالانحسار مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتفشي الجريمة وانكفاء شرطة ديترويت عن حماية السكان، وبالتالي ازدهار أهل الحي اقتصادياً وصولاً إلى الاندثار التام مع النزوح الكبير –كمعظم السكان البيض– إلى الضواحي، فكانت منطقة «المايلات» في مقاطعتي أوكلاند وماكومب الوجهة المفضلة لأسر الجالية. لكن بسبب اتساع رقعة الانتشار، وتوزّع العائلات النازحة عن ديترويت على العديد من المدن والبلدات المجاورة، افتقدت الجالية وجود مركز ثقل سكاني قادر على حفظ الهوية والخصوصية الثقافية والاجتماعية للعرب الأميركيين.
اختيار ديربورن
عندما قرر المهندس الشاب أسامة السبلاني خوض غمار مهنة المتاعب، وقع اختياره أولاً على مدينة تروي في مقاطعة أوكلاند، لتكون مقراً لمشروعه الصحفي الناطق باللغتين العربية والإنكليزية. لكنه مع بدء الاستعدادات لإطلاق «صدى الوطن»، وجد السبلاني في ديربورن فرصاً وآفاقاً واسعة، نظراً للعمق التاريخي الذي تميزت به الجالية في منطقة ديكس (الساوث أند)، والتي نجحت على مدى عقود في الحفاظ على هويتها الثقافية رغم المشقات والمضايقات التي تعرضت لها سواء من البلدية التي كانت تنتهج سياسات عنصرية معلنة، أو لكونها جيباً سكانياً معزولاً وسط دواخين المصانع في جنوب شرقي ديربورن.
ومن المعلوم أن الجالية العربية في منطقة ديكس بدأت تتشكل في العقد الثاني من القرن الماضي. ففي العام 1916 كان يعمل في مصانع هنري فورد للسيارات، 555 موظفاً من أصول «سورية» (سوريا، لبنان وفلسطين)، وقد استقر العديد من هؤلاء في محيط مصنع الروج الشهير إلى جانب مئات المهاجرين اليمنيين الأوائل ليشكلوا معاً، النواة الأولى للجالية العربية في ديربورن.
من مقرها الأول، مقابل مبنى بلدية ديربورن السابق على شارع ميشيغن أفنيو، صدر مطلع العام 1985، العدد صفر من صحيفة «صدى الوطن» باللغتين العربية والإنكليزية. العربية لتعزيز أواصر التعاون بين أبناء الجالية، والإنكليزية للإضاءة على وجهة النظر العربية التي كانت مغيبة بشكل شبه كامل عن مسرح الإعلام الأميركي، لاسيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي–الإسرائيلي، وتحديداً عقب اجتياح بيروت 1982، والذي كشف للسبلاني مدى أهمية خلق منبر حرّ يتولى الدفاع عن القضايا العربية العادلة على الساحة الأميركية.
الحلم العربي الأميركي
كانت الجالية في منطقة ديترويت الكبرى قد تعززت خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات بموجات هجرة محدودة من العديد من البلدان العربية، إلا أن التواجد العربي في ديربورن ظل محدوداً حتى نهاية الثمانينيات، قبل أن تتحول المدينة –إبان العقود الثلاثة التالية– إلى مركز استقطاب ثقافي واجتماعي لموجات المهاجرين الجدد من لبنان والعراق واليمن، حتى أصبحت اليوم عاصمة سياسية واقتصادية وثقافية للعرب الأميركيين بكل ما للكلمة من معنى، ورمزاً للحلم العربي الأميركي الذي ساهمت «صدى الوطن» في صياغته، بالعيش الحرّ والكريم، والانفتاح الثقافي مع الحفاظ على الهوية واللغة العربية.
وعلى مدى 35 عاماً، كانت «صدى الوطن» ولازالت شاهدة على نمو الجالية وتنوعها، وتعاظم تأثيرها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والمهني وصولاً إلى دورها السياسي المتنامي على الخارطة المحلية والوطنية.
ولا يخفى على القاصي والداني، الدور الذي أدته الصحيفة في تشكيل الهوية الجامعة للعرب الأميركيين في مترو ديترويت وعموم الولايات المتحدة. فمكاتب «صدى الوطن» التي تنقلت في ديربورن، بين ميشيغن أفنيو ووورن وغرينفيلد إلى شارع تشايس حيث استقرت منذ العام 1999، تحولت إلى مصدر رئيسي لوسائل الإعلام الوطنية والعالمية الساعية إلى تغطية المنظور العربي الأميركي للأحداث في أميركا والشرق الأوسط، إلى جانب التحديات والنجاحات التي حفلت بها الجالية خلال العقود الثلاثة الماضية.
من معتركات الحقوق المدنية ضد التمييز العنصري، والدفاع عن حقوق العرب والمسلمين الأميركيين في خضم هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، والتصدي لموجات الإسلاموفوبيا المتعاقبة التي جعلت من ديربورن هدفاً لليمين المتشدد، مروراً بتحديات الركود الاقتصادي وبلورة الصوت العربي الأميركي في الانتخابات المحلية، إلى المطالبة بالتمثيل المتكافئ في دوائر الحكم، وصولاً إلى رئاسة دونالد ترامب وتصاعد كراهية الأجانب، يشهد أرشيف «صدى الوطن» على قصص نضال ونجاح سطّرها أبناء وبنات الجالية في مختلف الميادين، حتى أصبح المجتمع العربي الأميركي في ديربورن اليوم مثالاً واضحاً على الدور الحيوي للمهاجرين في إعادة إحياء المدن الأميركية. ولعل التجربة العربية في شرق ديربورن خلال التسعينات، ثم في ديربورن هايتس خلال العقد الماضي، خير دليل على ذلك.
صفحات «صدى الوطن» الأسبوعية تشهد على «معجزة» المهاجرين العرب الذين حوّلوا أحياء شرق ديربورن من منطقة مقفرة في السبعينيات إلى منطقة تضج بالحياة سكناً وتجارة. عقاراً خلف عقار امتلأت ضفاف الشوارع الرئيسية، مثل وورن وشايفر، بالمحال والمطاعم والمقاهي والمؤسسات على مختلف أنواعها، وامتلأت المنازل بالعائلات، حتى أصبح سوق العقارات في شرق ديربورن بين الأقوى في ولاية ميشيغن، بعد أن كانت قبل عقود قليلة أشبه بمنطقة عازلة بين ديربورن وديترويت في حقبة سلبية التماس بين البيض والسود.
وبالأمس القريب، امتدت المعجزة الاجتماعية والاقتصادية للمهاجرين العرب إلى ديربورن هايتس. ففي الوقت الذي كانت تعاني فيه المدن والبلدات الأميركية عموماً من الأزمة الاقتصادية الخانقة 2008، كانت الجارة الغربية لديربورن، تعيش أوج ازدهارها مع انتقال آلاف الأسر العربية خلال العقد الماضي وافتتاح عشرات المؤسسات التجارية الجديدة، لتتحول ديربورن هايتس من «مدينة نائمة» بالمفهوم الأميركي، إلى مدينة تضجّ بالحياة والانتعاش الاقتصادي.
دور الجالية العربية في مترو ديترويت لم يقتصر على نهضة الديربورنين، بل ساهم في انتعاش مدن أخرى في المنطقة، مثل ستيرلنغ هايتس وهامترامك وملفينديل ووستلاند وغاردن سيتي وغيرها من الضواحي التي تشهد نمواً مضطرداً للحضور العربي الأميركي الذي لم يعد بالإمكان تجاهل دوره سواء في مجالات التعليم أو الصحة أو القانون أو حتى في الانتخابات والوظائف الرسمية.
الموقف الحرّ
وكما تفتخر «صدى الوطن» بدور الحارس الأمين على «الحلم العربي الأميركي»، كذلك تزخر مسيرة الصحيفة بالمواقف السياسية الصائبة إزاء الأحداث في المنطقة العربية، والتي ساهمت على مرّ العقود بتشكيل الوعي ضمن النسيج العربي المتنوع للجالية اليوم، والتي ترى فيه «صدى الوطن» نعمة لا نقمة، من خلال الالتزام بالحق والحقيقة والعروبة الجامعة.
وتنوع النسيج هذا ما هو إلا نتاج حروب وأزمات ومِحن عصفت بالدول العربية منذ استقلالها إلى اليوم، فتعاقبت الهجرات على وقع الأحداث الأليمة في العراق ولبنان واليمن وسوريا وغيرها من بلدان العرب، حتى أمست منطقة ديترويت حضناً يضمهم جميعاً ويلزمهم بمسار ومصير مشتركين.
«صدى الوطن» لم تلجأ يوماً إلى استغلال العصبيات الدينية أو الوطنية من أجل تحقيق مكاسب آنية، بل التزمت على الدوام بخطها العربي الشامل دون تردد أو وجل، حتى لو كلّفها ذلك استياء أو حنق البعض وافتقاد عقود إعلانية مجزية.
ومن انتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة إلى غزو الكويت وعاصفة الصحراء إلى عناقيد الغضب ودحر الاحتلال الإسرائيلي عن جنوب لبنان مروراً بغزو العراق وتأجيج الفتن المذهبية وصولاً إلى ما سميّ بـ«الربيع العربي» وما تبعه من اضطرابات وحروب لاتزال مستعرة حتى يومنا هذا، لم تتوانَ «صدى الوطن» مرةً في الوقوف إلى جانب الحقوق والمصالح العربية، رغم علمها المسبق بالأكلاف الباهظة التي قد تترتب على الموقف الحرّ.
35 عاماً، تبلور خلالها مصطلح «العرب الأميركيين» رغم الجهود الكبيرة المبذولة لطمسه والاستعاضة عنه بمصطلح «شرق أوسطيين». إذ تفتخر «جريدة العرب في أميركا الشمالية» بأنها المدافع الأول عن الهوية العربية الجامعة للجالية رغم الخطاب التقسيمي السائد، في وقت تخلّت فيه مؤسسات عديدة عن هويتها العربية من أجل الحصول على التمويل الحكومي والتبرعات تحت مظلة «اللاربحية» التي تجرد المؤسسات من موقفها السياسي، غير أن «صدى الوطن» قررت أن تواصل المسيرة متمسكة بالهوية العربية واللغة العربية والموقف الحرّ، معوّلةً على الله تعالى وثقة ووعي القرّاء ودعم المعلنين ومثابرة وجهد فريق العاملين في الصحيفة.
Leave a Reply