فاطمة هاشم
منذ بدء الخليقة، درج الكائن البشري على الفطرة الاجتماعية حيث تدرج في الرقي من مرحلة الصيد والرعي إلى نشوء المجتمعات المتمدّنة، وبذلك اكتشف علماء الاجتماع صفة الكائن الاجتماعي بطبعه، إذ ليس بمستطاع الإنسان أن يحيا مبتعداً عن الناس والركون إلى العزلة.
فكان أوّل ما فكّر به إقامة العلاقة الأسروية ليتبعها بعلاقات الصداقة التي هي العامل التكميلي لمديات الحياة الاجتماعية، ولكي يجعل من مجرى الحياة منساباً يحكمه التوازن، سعى إلى إقامة علاقات متكافئة مع الغير كانت الصداقة هي الصيغة المتقدّمة لهذا المسار، إذ ليست لليد الواحدة إمكانية التصفيق، وذلك ما جعله يشعر بمتعة العيش، فالصديق يخفّف عن نظيره من مصاعب الحياة ويركن إليه في الإفصاح عمّا يجيش في نفسه من أفكار وهواجس بل يتعدّى ذلك إلى بثّ همومه وشكواه حول كلّ صغيرة وكبيرة تمرّ عليه بحياته اليومية.
فالصديق يجد في من يثق به، آذاناً صاغية تسمع له وقلباً يحتضنه بمودّة وإخلاص وبروح حريصة صادقة ووفيّة، فتكون هذه هي الصداقة الحقيقية التي قلّ وجودها في الزمن الذي نحياه اليوم حيث تنتهي الصداقة بانتهاء المصلحة التي نشأت من أجلها للأسف الشديد.
قرأت مؤخراً كتاباً يحمل عنوان «رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد –أضواء جديدة على حياتها وشعرها»، فوجدته نموذجاً لأدب المراسلات الوافي لمعنى الصداقة وما يحيطها ويتعلّق بها، سيّما وقد اهتمّت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، بأدب مي زيادة الذي درّسته لطلابها عندما امتهنت التعليم الجامعي كأستاذة في «جامعة جونز هوبكنز» حيث تجلت معاني الصداقة المخلصة والوفية من خلال مضامين الرسائل المتبادلة بينهما وهي عماد موضوع بحث الكتاب.
كانت فدوى طوقان كتاباً مفتوحاً أمام صديقتها الأديبة ثريا حداد فأفصحت لها من خلال إحدى الرسائل بما كان يجيش في مشاعرها من الألم الدفين الذي كان مصدره قد اجتاحها من موقف أحد الإعلاميين المشهورين آنذاك حيث تبادلت معه مشاعر الحب بكل جوارحها لكنه تنصّل منها وتركها وحيدة تعاني أثر الصدمة، فوصفته بامتلاك موهبة تدمير الأشياء حتى مع إمكانية الحفاظ عليها دون أي جهد أو عناء، وقد استطردت في بوحها لصديقتها إيماناً منها بثقتها الراسخة بنفسها، أنها لم تسمح لذلك الحب أن يجعل منها ضحية تحصرها في خانة الإحباط فأغلقت بوجهه الباب.
ويتضح من رسائلها أنّها لم تخف ذلك الحب الذي عاشته، عندما دوّنت سيرتها الذاتية، فقد اعترفت بمشاعرها بكل جرأة متجاوزة المجتمع الذكوري المتزمت الذي نشأت فيه، كما لم تحجب معاناتها من العذاب النفسي المتأتي من رؤوس أسرتها حين أرغموها على ترك المدرسة وهي ابنة الإثني عشر ربيعاً فاتخذت من التمرد طريقاً لاختراق تقاليد المجتمع البالية، وبقيت تواصل بثّ همومها لصديقتها بما ترك الاحتلال الإسرائيلي في نفسها من الهمّ الثقيل، إذ كانت ثريا ملاذها الأمين فكانت خير صديقة اصطفاها قلبها لتبوح لها بكل ما كان يعتمل فيه دون حرج، لثقتها بأنها أمينة على بوحها دون أن تخذلها يوماً من الأيام مهما اختلفت الظروف. لم يفرق بين الصديقتين الحميمتين سوى القدر المحتوم بموت الأديبة ثريا لتدخل الشاعرة في دوامة حزن عميق وألم وفراغ كبير.
استمرت المراسلات من عام 1961 حتى عام 1996 تاريخ وفاة ثريا، حيث وصلت إلى ثلاثين رسالة صدرت في كتاب عن «دار طِباق» للنشر والتوزيع في مدينة البيرة بفلسطين عام 2018، في 156 صفحة من القطع المتوسط.
لقد أنتجت تلك الصداقة أدباً يعنى بالصداقة إلى درجة إصدار كتاب مشوق تقرأه الأجيال فتضيف معرفة إلى معارفها، فهل نجد في زمننا نموذجاً لتلك الصداقة الفذّة؟ أم أنه زمن العجائب والغرائب، حيث ما إن تتعرف إلى أحدهم وينتابك شعور بأنه الصديق المعوّل عليه وتلجأ إليه أوقات الضيق، حتى ينبري لك في أول خلاف بإظهار الضدّ، فتستيقظ على صورك وأخبارك منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي.
فإنسان اليوم يصعب عليه أن يجد صديقاً يطمئنّ إليه أميناً على حفظ معايير الصداقة وصون حرمتها، فتبّاً لزمن يندثر فيه الوفاء، على عكس ما نشأنا عليه في القول المأثور: «ربّ أخٍ لك لم تلدهُ أمّك»، حيث كان الناس يحيون على الفطرة بقلوب نظيفة، وليس كما اليوم في عصر الاستهلاك حيث تتلطخ الوجوه بألوان بهلوانات السيرك، وتفشي الثرثرة على مواقع الميديا، ولأنّ عيد الفصح يحلّ علينا هذه الأيام فلابدّ من التذكير بالرجوع إلى القيم الإنسانية التي نادى بها السيد المسيح في نشر المحبة بين الناس. فالمسيح لكل الناس، عيد فصح مجيد للجميع وكل عام وأنتم بخير وصداقة مخلصة.
Leave a Reply